نفّضت جسدي من القاعة و كأني أنفض أجفاني من بقايا كابوس قاتم.
الكل صامت في هذه القاعة. عيون الرجال باهتة و همهمات بعض النساء تبعث الحزن في قرارك، و ضحكات بعضهن بلا بريق. تداخلت ألوانهم و أسماؤهم و في لحظة ما أحسست أن غربتي بهذا الفضاء تدفعني للصياح، للجنون. صوت خافت خرج من صدري أعتقد أن لا أحد سمعه. و لا حتى جسد أمي القابع بجانبي. صوت همهمات تصلني أكاد لا أبصر اصحابها أمام الجدار البشري الذي يغطيني عن رؤية الجالسين بالجانب الآخر.
بعد هنيهة تقدم جسد مكتنز تجاهي ترين الكآبة على وجهه المتغضّن و يلتمع في عينيه سخط خفي، يرتدي جلبابين صوفيين و بلغة صفراء ينزعها كلما ولج ل”بيت الجواد”. بادرني بسؤال تعيس:
- ماذا بك أولدي؟
هل من حقي أن أجيب و أنا لا أعرف رأسي من قدمي الآن؟ أحسست برغبة جامحة في الصراخ و اغتصاب هذا السكون اللعين الذي يخيّم على القاعة. تفوهت ببعض الكلمات التي لم أتبينها و لم أفهم معناها. أحسني عميقا بداخلي و كأن شيئا يسكنني و يتكلم بدلي. رمقني الجالسون بخوف يعروه كثير من التردد. لم يجرؤ أحد على لمسي.. لا اسمع الى نواح أمي و ولولتها باحدى أركان القاعة.
تقدمت خطوات إلى الأمام و العيون الباهتة تتبعني. لم يبدي احد استغرابه لسخافة موقفي و كأن ذلك ردّهم على انطولوجية ما يسكنني.. ساعتها ، في قرارة نفسي، عادت بي ذاكرتي إلى تلك العجوز التي اقتحمت ليالي البكاء الصامت دون استئذان خلوتي في البكاء صامتا. ألتفت إليها لتبين وجهها..أهي انس أم جن؟ يخيّم السواد على وجهها و لا أتبين إلا عينيها الجريئتين الصامتتين كعيني طفلة شاخت قبل أوانها. لم أفكر لا أنا و لا هي في تغيير مكاننا رغم الروائح الكريهة التي كانت تنبعث من بقايا البول في فراشي!.
جسدي ينتفض انتفاضات متتالية على حصير القاعة.. يخطو الفقيه ذو الجسد المكتنز خطوات تجاهي ثم يضع يده على جبهتي و يتمتم عدة تمتمات. يستدعي أمي. تتجه نحوه و تجلس القرفصاء بجانب جسدي المنتفض. يقول لها:
- هاد السيد الساكن روح ولدك بغا كناوة.. خذيه لليلة لا لاعيشة الكناوية.
تجيبه أمي في خشوع تام:
- واخا سيد الفقيه.. حنا مسلمين ل”لجواد”.
لم أكن أعرف أن ارتعاشات الحمّى البئيسة و أنا في الخامسة من عمري تستوجب حضور كناوة للشفاء. لم يكن بوسعي أخذ قرار و انا في هذه السن.. الكبار يأخذون القرارات و نحن نصمت. نفضت أمي يديها من الأمر هي الأخرى و جعلتني احارب مرضي في استسلام و صمت.
في صباح حلزوني أبيض ب”تمصلوحت”، رافق مجيئنا وصول فرقة كناوة. عند رؤيتهم مالت أمي على حائط حجري و بكت. رأيت و أنا أداري خجلي كيف تهتز حنجرتها و يرتعش جسدها ارتعاشات سريعة في الهواء. لم أعرف إن كان مات أحدهم قبل وصول الفرقة الكناوية لتجهش بالبكاء ؟ لكنها رأت كناوة و رأت سحر آلات السنتير قبل أن تمتد أصابع الكناويين إليهم.
كانت أمي نحيلة إلى حد التلاشي. جملة من العظان تخترقها روح متعبة. دخلت حلبة الرقص غاضة طرفها عن أعين النساء الجارحة. تنفض ثوبها و نحوه و كأنها تزيل عنه ما علق به من غبار و ترقص امام كناوة بلا مبالاة. رآها والدي من بعيد و هي ترقص و تقفز ساحرة أعين الكناويين الذين يتغامزون عليها و اعجابهم بخطواتها و تمايلها حافية على ايقاعات سريعة. اقترب الى الحلبة مكفهر الوجه ضاغطا على يدي لا اراديا.
بعد انتهاء “فتوح الرحبة” و ذبح ماعز أسود و الرقص بديك بلدي أسود كذلك، جلس الحاضرون داخل دار كبيرة ، دار لا لاعيشة الكناوية. بعد هنيهة تأتي هذه الأخيرة أو كما يسمونها “الملايكية” فقام الكل باستقبالها باجلال و احترام.. اذ لا احد ينكر قوة يديها و قدرتها على التنبؤ بالمسرات و الأوجاع و الموت و صرخاتها الطويلة التي تشبه عواء ذئب.
ما إن وصلت حتى زينت الأرض بشراشف من صوف جلس عليها كناوة بجلابيبهم القصيرة و سحنات وجوههم السوداء و قد اظهروا كثيرا من الورع و الاحترام للسيدة العجوز التي لم يمنعها ارتماء الناس عليها طلبا للعلاج من بدل السلام على الفرقة الموسيقية و أمرهم باعداد البخور و احضار الاثواب الملونة بالوان قوس قزح. انتبهت لا لاعيشة و هي تتهيأ على الجلوس في “بيت الجواد” من كثرة الناس المرضى فراحت تستدعي واحدا تلو الآخر مردّدة عدة كلمات بصوت خافت.
بعد نصف ساعة أو أقل، نادتني السيدة ل “بيت الجواد” و أمرت والدتي بالجلوس في احدى أركان الغرفة و أمرتها بالتسليم لرجال الله و وضع “الفتوح” بطبق به بخور و تسبيح و بعض البيض الذي كتبت عليها بعض الحروف و أشياء أخرى لم أتبينها. حملتني من نصفي العلوي حتى استوى رأسي بوسادة صغيرة و لفت رأسي بعدها بثوب أسود غطى جبهتي حتى حاجبي و بصقت عليه ثلات مرات متتالية. ارتبكت أمي في مكانها و راحت تجهش بالبكاء فأمرتها السيدة العجوز بالصمت. لعل والدتي قد شعرت بأن ساعتي قد حانت و أن اللحظة التي تخافها قد اقتربت و أن عمري سينتهي اليوم و الا لماذا تتركني العجوز و تنصرف لمعالجة مريض آخر؟
تركتني على تلك الهيأة و عيوني مشدودة لقبة السماء لا أرى إلا شبح الموت و هو يراقبني في مكان ما بالغرفة؛ حاولت لا لاعيشة طرده مرارا بتمتماتها و صياحها المتوازن و الإيقاعات الكناوية بالخارج.. لا أشعر حينها إلا بيد أمي تربّت على جبهتي الملتفة بالثوب الأسود.
حينها، و بشكل مفاجئ، تقفز أمي من مكانها و ترتمي على يد السيدة العجوز بعد انتهائها من علاج مريض. تحضن يدها قائلة أنها مستعدة لسماع أي شيء بدل الإنتظار القائل. انبرت السيدة جانبا و اعدت بعضا من البخور و بدأت تمتم بضع كلمات ثم حملت بيضة من سلة شبه فارغة و بصوت رجولي قالت لوالدتي: ” أتمنى أن لا تنكسر.. شايلاه اسيدي الكوحل..”
حملت بعد ذلك قصبة و خطّت على تلك البيضة بعض كلمات و أمام دهشة أمي رمتها عاليا و راحت تجذب أمامها و تهز بطنها يمينا و شمالا الى ان سقطت امامها دون ان تنكسر.. فبكت أمي من هول المشهد منحنية للأرض و مسلّمة للجواد و لا لاعيشة الكناوية.
.
.
عثمان الهاسوتة – مدينة أيت ورير
اترك تعليقا