الغرفة التي وجدتني بها كانت بلا نوافذ. الباب مغلق، و النوافذ؟ لا نوافذ.
الغرفة بها مقعد واحد و شمعة تحترق تضيء إحدى اركان المكان. دقّ الباب على غير عادته دقا متتابعا مجنونا ففتحته. خيل إليّ لبرهة كأني أنظر في المرآة. رجل شاخص امامي يشبهني –أو أشبهه لا يهم- عار تماما و يلهث، مما دلّني على أنه شق طريقه ركضا إليّ. سألته:
- من أنت؟
أجاب:
- انا أنت! أرسلوني اليك.. يجيب مستدركا.
سألته مرة أخرى:
- من هل البوليس ، المخزن، القايد..من؟
- إنهم قادمون..
قلت برثاء:
- ظننتك لن تأتي..!
قال معاتبا:
- لم يتركوني في سلام، اليوم انتهيت و انا اعيد بناء التاريخ!
أجبته محتجا:
- قدومك إليّ سيورطني في مصيبة لا شان لي بها.
أجاب ضاحكا و عيناه تدمعان:
- ليس الأمر كما تتصور.. لنذهب عبر الممر..
جرني من يدي إلى الممر. أحسستني حزينا جدا و قلبي ثقيل لكني لا أعرف سببا معينا لحالي. الممر طويل. شغلت بهدفي فلم أنتبه للمارة. سألته: لماذا لا أسمع أصوات من يطاردوننا؟ لكنه لم يجب. شعرت أن يدي لم تعد تقبض على شيء، و أنه لم يعد له أثر و لم تساورني أية رغبة في التوقف على السير.
في هذه اللحظة فاجأتني رائحة عطر نسائي فواح يتضوع في الممر الذي امضي فيه. مررت على غرفة ذات باب حديدي أحمر. فتحت الباب و أطللت فوجدتها عارية ممدودة على السرير. جسدها مبسوط و موثوق على دعائم السرير.. الرجلان مفتوحتان و اليدان مبسوطتان، حلمتاها نافرتان و ذلك الزغب باد.. عيناها تنظران للسقف و في زوايا الغرفة سباع و ضباع و خفافيش شديدة السواد و خنازير مكفهرة الوجه. صدمني المشهد و أنا اعبر الممر بدوني، أحسست بإحساس غريب. لم أصرخ و لم أمض نحوها، و لم أحاول حتى ستر جسدها العاري المسجى و أفك وثاقها. في قرارة نفسي قلت هذا حالها و هكذا اختارت – أو اختاروا لها.
كان ثمة من يدفعني من الخلف حتى اكمل السير و أعبر الممر.
أشياء كثيرة تطاردني و تريد القبض علي حتى لا اعبر و أصل لغايتي. شعرت طول الوقت أنني اسعى لغاية لكنها غابت عن وعيي. في غياهب نفسي تبرق لحظة خاطفة و أعتقد لوهلة أنني اكتشفت مرادي لكنها سرعان ما تتبدد في الظلام، لكني رغم ذلك لا أكف عن التطلع و مواصلة السير.
في الممر، توجد عدة غرف تتغير من حيث الأبواب.. لكن لفت انتباهي باب خشبي كأبواب بيوت قريتي. حينما أطللت التفتت يمنة و يسرة فوجدتها على اليمين امرأة طاعنة في السن تذهب و تجيء في الغرفة بوجه جففته الوحدة و النسيان. شعرت أن وجهها مألوف لكن أين رأيته و متى؟ نظرت إلي، نظرت إليها.. تبادلنا النظر قليلا ثم ذهبت إلى الركن الأيسر من الغرفة و أتت بشاب ذو عنق يابس و هيئة أنيقة تدل على غناه. و هي تربت على خدّه بحنان، وقفا أمامي تعنقه السيدة و تقبل خديه فتمثل لي المشهد و كأنه مشهد سينمائي. رمى الشاب السيدة الطاعنة في السن بنظرات نكراء حاقدة، و انقض عليها و اعتصرها بين ذراعيه حتى تهاوت على الأرض.. فسقط عليها و انهال عليها ضربا و هو يشتم و يبصق على وجهها المجعّد. قامت في اعياء شديد تتأوه و تبكي..! ذهبت إلى نفس الركن مرة أخرى و أتت برجل شبه عار تربت خدّه و تنظر الى عينيه. جذبها إليه كضبع جائع أو كمصّاص دماء ثم عضها في عنقها و مصّ دماءها و اعتصرها حتى تأففت ثم دفعها أرضا متقززا و غادرها. استسلمت للنحيب و قامت شاحبة صفراء الوجه. و تكرر الفعل و ردّات الفعل عدة مرات حتى سقطت السيدة و لم تقم مرة أخرى.
و أنا امر عبر الممر مرّ بجانبي شاب أسمر يشعّ من عينيه نور يضيء له الطريق، حركاته المسرعة و مظهره الجميل يوحي بحماسه و بلوغ هدفه. تمسكت به ليضيء طريقي و أحظى بفرصة رؤية اتجاهه. بعد هنيهة انفلت مني ثم فتح باب غرفته و دلف اليها. بعد سير طويل وصلت آخر الممر. آخره غرفة أخرى اقشعر جسدي للون بابها الأسود. دققت الباب دقا متتابعا ففتح ووجدتني هناك جالسا على مقعد خشبي مستسلما لأمر الغرفة. شمعة بإحدى أركانها تحارب موتها في صمت و أنا قادم إلي بصعوبة، لا أستطيع الحراك.. أين السرعة، أين الحماس؟ وجدتني طاعنا في السن أكاد لا أتعرف عليّ! الغرفة فارغة إلا مني، حيطانها صدئة و مساحتها أوسع، و الصمت.
أحسست بنظراتهم من خلفي و لم ألتفت نحوهم. يطاردونني لأتركني هناك أطارد ومض الأمل بشقاء.. عيناي صدئتان و جدران غرفتي تفوح منها رائحة الصدأ و المقعد الوحيد هناك و الشمعة الصامتة..
آه كم تمنيت أن أتقيأ كل ذلك الصدأ وأغادر!
.
.
عثمان الهاسوتة – مدينة أيت أورير
اترك تعليقا