اليوم آخر ليلة في بيتنا القديم، أو الليلة التي تم الاتفاق أن تكون الأخيرة. البيت اضحى ذو شخصية تقليدية منفردة في الدوار و غربته أصبحت واضحة في محيط العصر و الدوار الذي لم يعد دوارا بالمعنى الحرفي للكلمة بسبب المنازل الفاخرة التي يقطنها كل من يأس من حياة المدينة. نشأنا في هذا البيت بحكم الميراث. نشأ فيه أجدادنا و كذلك ترعرعنا فيه أيضا حتى حال الجفاء بيننا و بينه فتطلعنا الى الحياة العصرية و كل ما تقدمه المدينة من حياة جديدة بعيدا عن الجدران الطينية.
كنت جالسا في غرفة والدي على سرير طاعن في السن. و كنت أحتسي كوب شاي و بجانبي طاولة صغيرة عليها شمعة تحارب موتها بصمت و عود بخور يحترق على مهل نافثا خيطا من الدخان الطيب يتماوج و يتأود تحت ضوء المصباح في صمت الوداع.
اعتراني خوف غريب، و في التماعة خاطفة اجتمعت الحياة كلها و كأنها لوحة تشكيلية تتكون من عدة صور. إلا أنها لم تنتظر حتى امعن النظر في صورها، بل انطلقت مسرعة كالضوء حتى غاصت في المجهول. شحنت عزيمتي للمقاومة و قلت لنفسي اني على وعي تام بالألاعيب التي يحاول البيت أن يدرجني بها، و أن الرحيل مقرر غذا و لا مجال للمماطلة. و أخذت أتسلى في الفايسبوك عن أحزان الفراق بمشاهدة آخر ما جاء به الأصدقاء. و كاد الشاي يستقر بداخلي حتى انتعشت مخيلتي و وثبت وثبة ظاهرة انتقلت بها من حال إلى حال.
تصاعدت أصوات من أعماقي تدعو الى اقتناص الرضى من الجو المعبق برائحة البخور و كشف الحجاب عن الذاكرة و المخيلة. و انهمرت عليّ سيول مترعة بشجن لامرئي. انتفض القلب و اجّج الدم داخل جلدي و شعّ نور في الغرفة فتمثل أمامي شخص قدم لي كأسا ذهبية بها ماء و دعاني الى النظر اليه. نظرت و اذا بي انظر الى انعكاس صورتي بالماء. ذابت الصالة في العدم و حل محلها بيت عصري انيق به بقع دائرية معشوشبة و تتوسطه بئر قديمة ملئ جوفها بكلمات مبعثرة.
لفتت انتباهي حبة رمل وحيدة في احدى اركان البيت. ما ان اقتربت منها حتى تكورت الى الركن الآخر و مضت تنتفخ رويدا رويدا حتى تناهت كرة هي أشبه بشجرة عملاقة مكورة الشكل مرقوم على أوراقها كلمات لم أتبينها. على حين غرة انطلقت الكرة نحو الفضاء ثم تهاوت مرتطمة بالبيت كأنما قذفتها قوة خفية من الأعلى محدثة صوتا استرسل صداه فيما يشبه الأنين. و تمادت في الإنتفاخ حتى صارت عملاقة ثم انبسطت على أرض البيت الأنيق ، فانطلقت منها أشجار بسرعة مخيفة حتى صار البيت كالغابة. سقطت أوراقها على أرض البيت المعشوشبة لتغدو زواحف تغزو المكان، فوكبني الارتياع و الرعب و عدوت بأقصى سرعة مبتعدا عن الزواحف التي أتخيلها تقتلني بدون رحمة أو تغرز فيّ أنيابها و تنفت فيّ سمها اللعين.
عدوت منها لكني أجدني أجري في متاهة وفي كل لحظة أجد حيطان البيت تضمني و ترجعني إلى النقطة التي انطلقت منها الزواحف. آه كم كرهت تلك الزواحف! لا منفذ من الهرب منها و لا صبر لي للاستسلام.. فلا حيطان البيت تساعد، و لا بابه يكشف عن نفسه لأفتحه و أهرب و استوى في شعوري القرب و البعد إزاء تلك الكرة التي انبسطت و كست أرض البيت. فجأة، انفجر المكان و احسست كأني أسقط من مرتفع حتى وجدتني أسير في شارع ضيق نحو المجهول. كنت حزينا و قلبي ثقيل. أضع يدي على صدري لأتحسسه لكني لا اعرف سببا واضحا لحزني. و سرت في الشارع المجهول حتى ارهقني السير و شعرت حقا اني اسعى وراء غاية لا أتذكرها و لا يستحضرها وعيي ، و في غياهب نفسي تبرق لحظة سريعة فاتوهم أني لمستكشفها لكنها تنفلت مني مخلفة يأسا مريعا.. و دوما لا أكف عن التطلع و الانخداع و السير. أعصر ذاكرتي الخبيثة لأتذكر و لكن الديك صاح مؤذنا بطلوع الفجر.
.
.
عثمان الهاسوتة – مدينة أيت أورير
اترك تعليقا