جعل الكاتب الشهيرارنست همنغواي، من روايته المثيرة للجدل “لمن تقرع الأجراس”، مسرحا يسرد فيه حكايات الحرب الأهلية الأسبانية في ثلاثينات القرن الماضي، التي عاشاها الإسبان بين الجمهوريين والفاشستيين، حيث تعتبر الرواية من المصادر التاريخية المهمة التي غطت أحداث هذه المرحلة المهمة من تاريخ إسبانيا في طريقها إلى بناء دولتها الحديثة، وقد اختزلت أحداث الرواية في ثلاثة أيام، كشفت تفاصيل هذه الحرب الكبيرة، وركزت على الأحداث الكبرى التي ميزت هذه الفترة، لكنها واجهت نقدا مبالغ فيه، بدعوى أنها لم تتكلم عن تفاصيل الحرب التي استمرت لأكثر من ثلاثة سنوات، ولهذا الرواية ليست مصدر من المصادر التي تروي تفاصيل هذه الحرب.
صدرت هذه الرواية في عام 1948م، وتحكي قصة بطلها الأمريكي روبرت جوردون، الشاب الذي قدم إسبانيا، المنتمي إلى الكتائب الدولية المرافقة لإحدى الفصائل التي تخوض الحرب الأهلية الإسبانية، وقد تم تعيينه بمهمة دقيقة، تتجلى في قطع طرق الإمداد عبر الجسور على الخصوم، بصفته خبير في هذا المجال، حيث تدرب بشكل كبير جدا على استخدام المتفجرات، للقيام بتفجير أحد أبرز الجسور، فكان هذا هو الحدث الأبرز الذي بنى عليه الكاتب روايته، على إعتبار أنه نقطة التحول في الحرب الأهلية الإسبانية وفي مسار الأحداث التي ستأتي بعد هذه العملية، وقد وظف الكاتب شخصيات الطرف الجمهوري بكثرة، بحكم أن الحرب كانت تهدف إلى القضاء النظام السابق، وفتحت بذلك ساحة دولية على الأراضي الإسبانية من كل الجنسيات، قبل فيها المتطوعين كأطراف داخل المعركة، في إطار التحالفات المعروفة بين أنصار الفصائل الإسبانية المتنازعة، وذلك بدعم من أطراف سياسية لدول كبرى، من بينها الولايات المتحدة الأمريكية، تدعم فيه الطرف الذي يوافق أهواءها ومصالحها، ويضمن لها إستمرار التبعية لها.
وتمكن الكاتب”همنغواي” من رسم الصورة التي أرادها لروايته، بموضوعية وقد اختزلها بحادثة تفجير الجسر الذي قلب الموازين، بعد نجاح الشاب الأمريكي في المهمة التي تولى القيام بها ” روبرتو جوردان”، نجاح المهمة يقابله موت البطل الأمريكي الذي خطط ونفذ للتفجير، لكنه لم يسلم من خططه فمات بما خطط له، وبقي الإسبان في حربهم الأهلية، التي لم تأت بجديد وبقيت الكفة متعادلة بالنسبة للطرفين نوعا ما، ولم يكن هناك أي تغيير يذكر، لأن هذه الحرب الأهلية، و بعد سنوات الحرب، صبت لصالح الفاشستية الإسبانية، وتحولت بذلك هذه الدولة التي كانت تحلم بمستقبل أفضل إلى إسبانيا السيد الواحد، القرار الواحد، الرأي الواحد، بعد صعود “فرانكو” الديكتاتور إلى الحكم، وقد حاول الكاتب في هذا العمل أن يظهر بموضوعية أن الحروب الأهلية هي خسارة فقط، وأنها لا تضمن للبلد مستقبلا أفضل، بقدر ما قد تضمن له ديكتاتور جديد استفاذ من هذه الحرب، واستعد للمرحلة القادمة بجدية أكثر، وهو ما حدث مع الإسبان والكثير من الدول عبر العالم، لكن الجميل في هذا العمل، هو تركيز صاحبه على تيمة المساواة بين الجميع، رغم إختلاف المناصب والدرجات، وهو في هذا ينزاح إلى عدم تقديس الحزب الجمهوري وتناول ما له وما عليه، واعتراف أفراده بجرائمهم الوحشية ضد الطرف الآخر، وإن كان قد وظف في روايته شخصيات تنتمي إلى توجهات هذا الحزب.
الكاتب”همنغواي” من خلال هذا العمل الفني في زمن الحرب الأهلية، إستطاع أن يسلط الضوء على الجانب الإنساني للحرب الأهلية الإسبانية، وأن ينقل معاناة الشعب الإسباني مع ويلات الحروب، وهي مهمة نبيلة لأي كاتب يحاول أن يؤرخ لمرحلة ما، فكان تركيزه منصب على عمليات إطلاق النار وقتل الناس الأبرياء ممن كانوا جيرانه، و رفاقه ومن عامة الشعب، كما تطرق إلى هواجس الميولات التي أصابت الشعب الإسباني، وفرقت بين الإسبان وحولتهم إلى طوائف متناحرة، بعدما اختلفت أهوائهم وتوجهاتهم السياسية وأصبحوا أعداء لبعضهم البعض، فكانت النتيجة تحول إسبانيا إلى ساحة لمعركة دامية، مع كثرة الدماء والوحشية والموت، وفظاعة الحرب والخراب والدمار، حيث تحول الناس العاديين إلى وحوش تعشق القتل والدم، تحول أغلب الإسبان إلى آلة قتل دون رحمة، أداة في يد أصحاب الأفكار المسمومة، والتوجهات السياسية، فتحول الهدف المشترك بين الإسبان إلى أهداف شخصية، ونزاعات فردية.
الرواية تركز كذلك على الأفعال الوحشية إلى حولت الإنسان إلى آلة قتل، بعيدا عن الإنسانية المشتركة والهوية الواحدة، وقد ظهر ذلك من خلال شخصية “بابلو”، الذي تحول من إنسان عادي إلى قاتل تمرد على كل القيم والمبادئ التي تعلمها من قبل، تجرد من الإنسانية بعدما تمكن من قتل المتظاهرين من إخوانه الإسبان ببرودة دم، يسعى بكل الطرق إلى الحفاظ على حياته، وما يؤمن من أفكار وتوجهات الجماعة التي ينتمي إليها، ولو كان ذلك بقتل أفراد من حزبه أو دويه وأقرباءه، وهنا يتحدث الكاتب عن ضياع الهدف الذي رسمته الثورة منذ البداية، فتحولت من المطالبة ببناء بلد جديد إلى حرب أهلية دامية، وساحة للمعارك الدولية، مات قلب هذا الشخص، ومات ضميره، واضحى أسير أفكار فقط لا يستطيع حتى تحليلها، فهو مجبر على القتل، ولا شيء دونه، من كثرة قتلته للناس من حوله ط، والاضطرابات النفسية التي بدأ يعيشها، فكان يتم تخذيره بأفكار معينة تجلعه يستحل القتل دون تفكير، وفي الرواية يبرز ذلك من خلال النصائح التي قدمها “جوردان” لمساعده الوفي “أنسيلمو” بعدم شخصنة الهدف عندما إطلاق النار، لأن الرصاصة ستصيب هدفا معينا، وليس إنسان كانت له حياة مشتركة معه في يوم من الأيام.
اترك تعليقا