ظل طموح الوصول إلى كرسي الرئاسة والملك حلما يراود الجميع، وخصوصا أبناء الطبقة الحاكمة وحاشيتها، فكان التاج متار تنافس شرس على مر التاريخ بين أبناء الملوك والسلاطين، كما كرسي الحكم بالنسبة لأبناء الرؤساء والسياسيين، الأمر الذي حول هذه المنافسة إلى حرب يواجه فيها الأب ابنه والأخ أخاه، ويتحول الداعم والحبيب إلى منافس، فالتاج هدف الجميع وكل الطرق الممكنة وغير الممكنة توظف في سبيل الجلوس عليه، تغيب القيم والقوانين، وتبدأ خطط المكر والخديعة، فالقوة التي تفضي إلى سيطرة طرف معين على حساب الطرف الآخر.
لقد حمل لنا الأدب عموما من روايات وكتب تاريخية، أخبار حروب كثيرة عرفها تاريخ البشرية منذ الأزل وإلى اليوم، والتي غيرت من معالم الخريطة السياسية والجغرافية للعالم، فقسمت إمبراطوريات المعمورة إلى دول ومناطق، ولم يكن الأمر بالهين سواء قديما أو في الوقت الراهن، كما تذكر ذلك رواية “في سبيل التاج”، والتي تكشف لنا جانبا مهما من الصراع على التاج بين الأب وابنه، والحيل التي استخدمت للوصول إلى التاج المنشود، فالرواية تجسيد حقيقي لوجه الإنسان السلطوي.
وعندما تقف على ضفاف رواية “في سبيل التاج” وتتمعن بين أسطر صفحاتها، وهي رواية “لفرانسوا كوبيه”، وقد تمت ترجمتها من قبل المترجم والكاتب المصري الكبير مصطفى المنفلوطي بتصرف، تشم عبق التاريخ وريحان السياسة، تفوح منها السلطة والتجبر، فالوصول إلى الكرسي غاية كل شخص كما تذكر الرواية، وهدف مشروف عندما يتقوى الإنسان على خصمه، بحيث يصبح عاجزا كل العجز عن التمييز بين القيم الإنسانية وروابط الأخوة والقرابة من جهة، وكرسي السلطة من جهة أخرى، حيث يغيب طرف معين ويحضر الآخر، كما في الرواية عن الاختيار الكبير بين أقوى الحبين، حب الوالد وحب الوطن.
فالسياسة ابتلاء صعب، كما يؤكد ذلك صاحبها، وما أصعب أن يبتلى المرء في سبيل الوصول إلى التاج بين الاختيار بين الأب وكرسي العرش، حيث أن الوصول إلى أحدهما يتطلب التضحية بالآخر، مثلما تعرض لهذا بطل الرواية “قسطنطين”، وهو ابن قائد جيش البلقان الذي حارب في سبيل تحرير البلقان من التواجد العثماني الذي كان يخطط للاستيلاء على البلد التي سوف تزيد من حصنهم المناعي بعد ذلك، لما تمثله هذه المنطقة الاستراتيجية الهامة للعثمانيين من أجل الوصول إلى غرب أوروبا، كما أنهم يطمعون في أن تكون الدرع الواقي لهم ولجيشهم من الجيوش المسيحية الأوروبية التي تسعى بكل الطرق إلى حصر التواجد العثماني في بلاد الأناضول، فأخذ قسطنطين هذا مهمة حماية بلاد البلقان من العثمانيين وحاربهم بكل قوة وشجاعة.
وتكشف الرواية جانبا مهما من الصراع الذي كان دائرا حول حكم البلقان من قبل الملك ومطامع ملكة اليونان، فعندما تقرر انتخاب الملك القادم أخذ الطمع والنبوءات تظهر شخصية جديدة في سلم السلطة لم يكن أحد يعقد لها بال، ولم تكن في الحسبان، حيث أن هذه الشخصية هي الأميرة اليونانية “بازيليد”، وهي زوجة قائد الجيش البلقاني، التي بدأ حلم الوصول إلى السلطة يراودها ويسلب عقلها، وسرعان ما بدأت لعبتها الخبيثة من خلال ما تحيكه من المؤامرات والخطط لكي تتوج ملكة على عرش البلقان، دون أن تتركه ذلك لشخص آخر فقد كانت تنظر لنفسها بأنها الأحق بالعرش، لكن بشكل غير معلن، لقد كانت تلعب لعبتها من وراء الستار السياسي بمساعدة العديد من مؤيديها واتباعها، لأنها كانت على علم بما يدور في فلك الحكم، وكانت أعلم بحال زوجها الذي لم يعد قادرا على الحكم.
لقد استغلت الزوجة بازيليد المدللة في القصر حب زوجها لها، وعدم رفضه أي طلب لتبدأ في ترتيب كرسي عرشها الجديد، وقد كان ذلك بعدما أحست بدنو أجل أفول شمس العرش من زوجها الذي نقم كثيرا لما بذله جهد ودم فداء لوطنه الذي كرس حياتها له، حيث قوبلت تضحياته بالجحود وبدأت المؤامرات تحاك لكي يكون خارج التاج الذي اشتعل الصراع عليه من قبل زوجته وأطراف أخرى، فلم تعد له مكانة في الجيش الذي له أكبر الأثر فيه على النصر، فقد جرد من شخصيه القوية التي كان يمتاز بها، وبات الحكم الفعلي في يد زوجته التي ملكها هوس السلطة وهي التي لا يرفض لها طلب إرضاء لها، حتى لو كان ذلك الطلب خيانة وطنه.
لقد نجحت الأميرة في أن تقنعه بأن يسمح للجيش العثماني الذي بات على مقربة من البلقان أن يخل الأرض ويعبر الحدود، مقابل أن يتوج مرة أخرى ملكا على البلقان بعد انتصارهم، وبذلك تنال مرادها في الوصول إلى العرش، كما وعدها الأتراك بعد قتله أو وفاته والانتصار على ابنه “قسطنطين”، وهو اتفاق مع جاسوس عثماني كان يزورها وعقد معها هذا الاتفاق، وقبل الملك به لأنه لا يرفض لها طلب، وبذلك يكون قد ضحى ببلده فداء لحبيبته ولتاج الكرسي الذي كان هدفا لابنه قسطنطين أيضا، وهو الوريث الشرعي بعد موته، لكن قسطنطين علم بالأمر وتصدى لوالده محاولا رده عن مسعاه وذكره بماضيه الباسل وتاريخه في خدمة البلقان وحياطته من الأخطار والأهوال، لكن لا فائدة من ذلك في سبيل إرضاء زوجته، ليضطر قسطنطين إلى مواجهة والدة من أجل الحفاظ على وحدة البلقان وحمايته من العثمانيين، ليختار بين أعز الحبين على قلبه وطنه، لقد كانت كفة الوطن راجحة، وقتل بذلك أباه منقذا البلقان من اتفاق الذل الذي صادق عليه أباه وزوجته في الوقت المناسب وأصبح هو الملك والقائد، وذاع صيته على أنه بطل قومي ضحى بأبيه من أجل أن يحيا وطنه حراً أبياً.
لم ينتصر الجيش العثماني ويحقق مراده في دخول أرض البلقان، ولم النصر حليفهم من بعد موت القائد السابق، حيث وقف القائد قسطنطين في وجههم وأفشل كل أحلامهم في سبيل الوصول إلى هدفهم المنشود، وظلت الأميرة “بازيليد” تحاول جاهدة بأن تنتزع أي فرصة لتزيح قسطنطين هذا عن العرش لتتولى هي بنفسها دواليب الحكم كما كانت تحلم بذلك من قبل، وقد انتهزت وقيعة في الجيش بين القائد قسطنطين وجنوده ونشرت بينهم دعايتها التي تروج بأنه خائن ويسعى لإهلاك الجيش البلقاني ليسهل دخول العدو العثماني، فيما كانت تدعوه إلى إتمام مشروع أبيه، لكنه صدمها بواقع قتله له.
وأظهرت الأميرة الساعية إلى الحكم مهما كلفها الأمر، وثيقة ذلك الاتفاق مع الجيش العثماني موقعه بختم القائد، وليحكم عليه بالحياة مذلولا بخيانة الوطن التي وقها أباه بطلب من الأميرة، وظل مربوطا بتمثال أبيه حتى كلما نظر إليه تذكر شهادته في سبيل بلاده، ولم يتحمل تشويه سمعة أبيه بعدما علم بالمصيدة التي دبرتها له الأميرة، وقد أختار الموت ورضي به بالموت بعدما فوجئ بالحكم عليه بالإعدام، ولكن كان لديه جارية أنقذها وأحبته وجاءت لترد إليه هذا المعروف فقتلته وقتلت نفسها فشكرها بين أنفاسه الأخيرة، وكانت صورة حزينة لكل من حضر الحكم، ولكن الحق لم يلبث أن ظهر حتى ولو بعد أعوام وحتى لو كان على لسان بازيليد في فراش الموت وعُرف أن قسطنين ماهو إلا مواطن شريف ضحى بوالده من أجل وطنه.
- رواية رائعة مليئة بالمشاعر ذات لغة قيّيمة للمنفلوطي تركت أثرا رائعا على الأحداث
عبد اللطيف ضمير- مدينة الجديدة
اترك تعليقا