تعتبر روايته “مرايا الجنرال”، للكاتب المغربي طارق بكاري من الرويات المغربية القليلة التي تمكن من النفاذ إلى الذات ومخاطبة هواجس النفس، في محاكمة نفسية لكل شخص مع نفسه، مع ماضيه وحاضره، تخترق جدران دواخله وتخرجه إلى العالم الذي عاش فيه، ويتضح ذلك جليا في نجاح الكاتب في توظيفه شخصيات روايته، التي كان لها التأثير الكبير على المجتمع، شخصيات لبست ثوب السلطة، مارست طقوسها وتلويناتها المختلفة، حددت وتحدد مصير أفراد المجتمع، بقرارات واعية أو غير ذلك، ويحصل أن يصيبها تأنيب الضمير، في خريف العمر، فتبدأ بمحاسبة الضمير عبر استحضار تاريخها الأسود، المليىء بالتجبر والقهر والتسلط، الأمر الذي قد يصيبها بمرض نفسي أو نوع من الانفصام في الشخصية، شخصية مرتبطة بالماضي وأخرى تؤسس لحاضر جديد.
عبر أحداث الرواية التي تهتم بماضي الجنرال قاسم القادم من فرنسا، بعدما تم تدريبه على ممارسة السلطة وخبثها على أكمل وجه، لحكم منطقة جنوب المغرب ندعى “ليكسوس”، تبين لنا الحضور القوي للسلطة بمختلف أشكالها، سلطة القوانين والمجتمع، وحتى سلطة الأنا والآخر، وأيضا سلطة الحب، وهنا يصبح الجنرال المشبع بالعديد من الأفكار التي تلقاها من قبل بصدد إجراء محاكمة لنفسه، عبر محاولة التجرد من جلباب السلطة الذي ارتداه لفترة، إلى الاعتراف بخطاياه تجاه الناس والبلاد، فهو ضحية سلطة أفكار أعدت له مسبقا، جردته من الإنسانية، وكأنه مخصي، لا يستطيع التمييز بين الصواب من الخطأ، كل همه إخضاع الناس وفق القانون الذي تعلمه في فرنسا، هذا التكوين الذي جلعه يجري وراء تلوينات أنواع العذاب والقهر قصد إخضاع الناس وإدلالهم، فالسلطة بالنسبة هي تعبير عن النقص الداخلي الذي يعيشه، وتطبيقها على الضعفاء يتيح له النظر إلى نفسه بإستعلاء، ويهمه ما سيترتب عن ذلك من نتائج كارثية، فتطبيق القوانين مهما كانت أمرا سهلا في يد من يملك السلطة والجاه، لكن المصالحة مع الذات أمر معقد وصعب، ويحتاج إلى علاج نفسي، من أجل التخلص من جبروت هذه السلطة اللعينة، التي دفعته التي توقيع قرارات خطيرة ما تزال تأثيراتها وتداعياتها حاضرة وفاعلة ومستمرة تجاه الأجيال القادمة، وهو ما ظل يعيشه الجنرال في الرواية عبر فصولها، لقد ظل في حرب مع نفسه ومحيطه، يجر خياب ما صنع بقرارات سطلته التي جردته من كل شيء، من الهوية الوطنية، من الإنسانية والأخوة، وحولته إلى الآلة تقوم بوظيفة معينة، خدمة لصاحبها وأهدافه المعلنة والخفية.
لقد حاول الكاتب طارق بكاري في روايته، الصادرة عن دار الآداب اللبنانية في العام 2017، النبش في الذاكرة الجماعية لمنطقة عاشت بشط هذا الجنرال الذي حكم المنطقة بقبضة من حديد، وكأننا أمام مرآت أو مرايا عديدة، تتمثل الأوضاع الصعبة التي عاشها المغاربة ما بعد الإستعمار الفرنسي، وقد اعتمد الكاتب على تعدد الشخصيات أو المرايا، وكل واحدة منهم تعكس وتتمثل ركاما من مخلفات مكنوناتها وعوالمها الداخلية، ثقافيا ودينيا وسياسيا و أيديولوجيا أيضا، وهذه المرايا هي التي تشكل عمق المجتمع المغربي المتنوع بكافة أطيافه وتلويناته، فكل شخصية هي مرآت عاكسة لأنموذج من النماذج الموجودة حاليا، ووجدت من قبل في مجتمعنا المغربي، بالاعتماد بشكل شبه كامل على أسلوب التراسل والتفاعل بين الشخصيات، إذ تشكل الرسائل فصول الرواية، وهذا التنوع أحدث نوعا من التفاعل عبر فصول الرواية لكنه لم يكد يتجاوز السلطة، فكل شخص ظل محافظا على كينونته وهويته، وإن بدى لنا ذلك الإنصهار الجزئي من خلال تبادل الرسائل التي كونت مرايا التاريخ، والثقافة والهوية، وحددت تركيبة الشخصيات وبناء الأحداث، لقد سيطر على الشخصيات هاجس سلطة الآخر، ولم تمتلك أي واحدة منهم قرارات نفسها، ولم تنجح في فرض نفسها، رغم ما كانت تحمله كل واحدة منهم من قيم ومبادىء.
لقد إختار الكاتب منطقة “ليكسوس”، لتكون مكان توزيع أحداثه، وتشكيل مراياه، الواجهة التي تكشف عن التيه، والتسلط، عن الإستعمار والاستبداد الذي عاشته هذه المنطقة خلال سبعينيات القرن الماضي، حيث سلط عليها هذا الجنرال قاسم جلال الذي طمس هويتها وتاريخها، فقدت معه وجودها وسلامها، وأصبحت تعيش صراعات لا هوادة فيها، حرب دائمة في سبل للعودة إلى سلامها الداخلي المفقود، بعدما عاشت تحت رحمة هذا الجنرال، كل أنواع التسلط والإستبداد، يستبد بأهلها ويحولهم إلى عبيد مطيعين، يهين معارضيه ويتلذذ كثيرا بكل الممارسات الوحشية و الشنيعة بحقهم، إنه النموذج السلطويّ الفاسد والمستبد، الذي دمر البلاد والعباد بقراراته السياسية الاستبدادية، في سبيل تحقيق أهداف معينة، على حساب مصلحة المنطقة والبلاد عموما، حيث كان يزعم الدفاع عن البلاد وحمايتها من أعدائها في الداخل، وتحقيق الإصلاحات، الأمر الذي جعل عقله يبرر أفعاله الشنيعة، ويقوم بالهدم بدل البناء.
يبدوا أن الكاتب طارق بكاري رسم للسلطة مسارا معينا من خلال مرآت خاصة، يتحدث فيها عن الخيانة التي تتعرض لها أي منطقة من قبل السلطة التي سلطت عليها لتحكمها وتسير شؤونها، متحدثا عن البلاد التي تخونها السلطة والمعارضة معا، تشكلان فقط مظهرا من مظاهر الديمقراطية والدفاع عن حقوق المقهورين، في حين أنهما وجهان لعملة واحدة في الخيانة، هذه الخيانة التي تكون متبادلة، يشعر بها كل شخص أذنب في حق الآخرين، يتحول من خلالها الجميع إلى مذنبين في حق غيرهم وأنفسهم، وهذه الصورة ظلت لصيقة أكثر بشخصية الجنرال جلال قاسم الذي ظلم نفسه وغيره، حتى وجد نفسه في خريف العمر يلهت وراء الحب، بعدما شبع من السلطة وجبروتها.
يصور الكاتب عبر شخصيات روايته لونا آخر من ألوان السلطة، وهي الأكثر شيوعا بيننا اليوم، المزايدة في الوطنية أو الشرف أو الولاء، والشعارات التي لا تجدي نفعا ولا يعود بالنفع على الوطن، بقدر ما تكون رمز غرق الجميع في أوحال الخيانة والتبعية للخارج، وأخطر أنواع هذه التبعية هي التي تجسدت في سطلة الجنرال الذي تشبع بها وتربى عليها في فرنسا، ومارسها على أبناء هذه المنطقة، إنه عصا المستعمر الفرنسي التي ما تزال تبطش بالناس، ولم يتغير أي شيء، رغم خروج المعمر والحصول على الإستقلال، وهنا يتحدث طارق بكاري عن إستعمار من نوع آخر، وهو الأخطر، استعمار يمس الهوية واللغة والكينونة المغربية، الذي انتقل من مرحلة الاحتلال المباشر إلى الابتزاز واستغلال الموارد والتحكّم عن بعد، عبر أيادي يتم إعدادها لهذا الغرض، وهذا النوع هو الأخطر والأكثر انتشارا اليوم، ولذلك نجد الدول الإمبريالية العالمية تعمل بشكل جاد على صنع أيادي تابعة لها، تربت على طاعتها تسير بلدانها الأصلية خدمة لها ولمصالحها على حساب الوطن الأصلي.
لقد صنع هارفي كلارك الطبيب الفرنسي شخصيات عديدة على النسق الذي يريده وتريده بلاده، من خلال الاختبارات التي يجريها على البشر ليكون نسخة سهلة التحكم عن بعد، تعطاها السلطة فتسبد وتمارس كل أنواع التسلط والقهر، يتم تغييب العقل والقيم الحقيقية للإنسان، في مقابل ذلك يتم استنساخ عقول خاضعة وتابعة لهم، تخدمهم بمنتهى الإخلاص، فيتحول الشخص إلى وسيلة في يد الدول الإمبريالية، يقوم بتخريب البلاد وحماية المصالح الكبرى لهذه الدول بشتى الوسائل، وقد ظهر ذلك جليا من خلال توظيف الكاتب لنماذج عديدة لعبوا دورا كبير في هذا التخريب ظنا منهم أنهم يصلحون، وهذا ما لمح له الكاتب طارق بكاري بالاحتراب المستعر داخل المرء، وذاك المتفعل بين الذات والآخر، جراء ما يقوم به لتبرير سلطته القهرية وأفعاله الشنيعة.
اترك تعليقا