(حتى لا ننسى عدنان)
تلك النظرة أعرفها!
لطالما سدد العديد منهم سهامها نحوي، متقمصين دور البراءة!
ابتسمت في وجهه حتى اسايره في لعبته السمجة، غير مدرك أننا نحن معشر الضباط قد تلقينا تدريبا دقيقا على مثل هذه الحالات!
أطرقت بعدها قائلا:
-إذن أنت لا تعرف الروبيو ولا علاقة لك به؟
أجابني وقد أمضى في رسم تلك الملامح البريئة على وجهه المشبع برسومات خططتها مديات من هم هلى شاكلته قائلا:
– لا… لا لا علاقة لي به ولم يحدث أن التقيت به يوما!
كانت السيدة وردة وعلى عادتها، تقصد سوق وسط المدينة للتبضع حاملة بيدها ورقة وقد دونت عليها كل حاجياتها منظمة بشكل دقيق، جميلة ورزينة تدفع كل من يعرفها لاحترامها، وزادها صوتها المنخفض توددا حتى ارتاح لها الجميع.
غير بعيد من السوق ربدت سيارة فارهة في إنتظارها يسهر على سياقتها رجل متوسط العمر يظهر أنه يشغل هذا المنصب منذ مدة، فما إن لمح السيدة وردة قادمة يتبعها حمال حتى ترجل من السيارة فاتحا صندوقها ليحشر بداخله كل المقتنيات.
سلمت للحمال ورقة نقدية ويبدو أنه سعيد بعطائها بعد أن بات لسانه يلهج لها بالدعوات فيما كانت الابتسامة تعلو محياها، وقبل أن تصعد إلى السيارة استوقفها طفل عبث الزمان بثيابه وشعره، حتى مالت شقرته الأصلية إلى لون مبهم المعالم، ففطنت السيدة وردة أن وراء هذه الأوساخ طفلا جميلا ووسيما !
أمسكت بذراعه بينما كان ينظر إليها بعينيه الزرقاوتين يتوسلها بعض الدريهمات فيما أطرقت تسأله عن اسمه، أجابها باستحياء :
-اسمي أمير وذلك الشخص هناك أخي سمير.
أشارت السيدة وردة للطفل الثاني فانضم اليهما أخرجت حفنة من الدراهم مدت منها لكل منهما وقبل أن تعتلي كرسي سيارتها رددت:
-أمير وسمير اسمين جميلين!
وقبل أن ينطلق سائقها أشارت له بالتريث وسألت الطفلين قائلة:
-هل تترددان يوميا على هذا المكان؟
أجابها أمير:
-نعم.. نعم كل يوم.
-إذن سآتي لرؤيتكما !
فيما ربتت على كتف السائق ملوحة له بالتحرك.
طوال المسافة الفاصلة بين السوق و مقر سكناها لم تكف عن التفكير في هؤلاء الأطفال، كما أن هذا اللقاء المفاجئ قد حرك بدواخلها رغبتها القديمة في امتلاك مثل هذه المخلوقات الصغيرة، لكن الرياح غالبا ماتجري بما لا تشتهيه القوارب!
وردة من عائلة ميسورة، الوريثة الوحيدة لعائلتها ، اشتغلت بعد تخرجها بإحدى سفارات البلد بالخارج قبل أن تترك منصبها بعد ان اكتشفت انها لم تخلق للأعمال المكتبية، واستقرت بهذه المدينة الساحلية الهادئة.
بعد يومين عادت للتبضع كعادتها فما إن ربدت السيارة قبالة السوق حتى لمحت أمير يشاكس كلبا فنادته قبل أن تترجل من السيارة وبيدها علبة بها أكل، وكيس باليد الأخرى به ملابس جديدة لكلا الطفلين .
توجه نحوها أمير وأخد منها العلب وهم بالانصراف قبل أن تسأله عن مقر سكناهما.
فأخبرها بموضع نومهما بمكان محاد للملعب البلدي، وراحت تنظر إليهما وهما ينصرفان فرحين بهديتها لهما.
بعد أسبوع عادت إلى سوقها المعتاد ولم تجد لهما أثرا مما حرك بدواخلها فضولا وتذكرت مكان نومهما الذي أخبرها به أمير، فقررت السير إلى جنبات الملعب البلدي لتتفقد المكان.
بعد لحظات لمحت أمير رفقة شخص بالغ يعنفه ولم تتدخل بل تابعت حركات أمير وكأنه يدافع على نفسه فيما كان الشخص الغريب يمسكه من خناقه وكأنه يجره لمكان ما!
كانت دورية الشرطة مارة من المكان فلمحها الشخص فأخلى سبيل الطفل المغلوب على أمره فلاذ كلاهما بالفرار!
تساؤلات كثيرة دارت برأس السيدة وردة، لم تنعم بلحظة وسن على إثر ماشاهدته من أحداث هذا اليوم.
في اليوم الموالي وعلى غير عادتها أخذت سيارة صغيرة الحجم وراحت تتفقد الأرجاء لعلها تعثر على أمير أو سمير !
ركنت سيارتها غير بعيد عن المكان الذي رأت فيه أمير وهو يعنف من طرف الشخص الغريب، وسارت بضع خطوات ليلوح لها سمير وهو يفترش الأرض ويلتحف السماء، فما إن رٱها حتى هم واقفا راسما على وجهه ابتسامة سخية وكأنه يحاول أن يمسح بها آثار البؤس على محياه.
-أين هو أمير ؟
أطرقت وردة.
لعله نائم كعادته بالبرج بمدخل المدينة!
هكذا أخبرها المسكين ناكس الرأس، فيما راحت تكيله مزيدا من الاسئلة قائلة:
-كيف يسمح لنفسه أن يتركك وحيدا لينام بالبرج؟!
أجابها والدمعة تملأ مقلتاه:
-هناك شخص يقتفي أثره وهددني إن لم استدرجه لهذا المكان هذا المساء سيجهز علي!
هل يمكنك أن تدلني على أمير؟ لنساعده فهو في خطر إذن!
سبقها سمير والفرحة تحتل قلبه الصغير وقد شعر أخيرا بأن هناك من يكثرت لأمرهما.
لم يكن أمير يتصور أن السيدة وردة ستحفل لأمره أو أنها ستخاطر بنفسها و تصعد إلى هذا المكان الذي يرتاده المتشردون، فما إن رآها حتى هرول صوبها وقد فتحت ذراعيها له وضمته لصدرها ولسانها لا يكل من لهج الدعوات شاكرة حامدة الله على كونه بخير!
تحركت مرة أخرى بدواخلها أحاسيس قُبرت من زمان مضى وهاهي تنبعث من جديد!
-هيا بنا أمير لنخرج من هنا!
قالت وردة.
تراجع أمير إلى الخلف فيما كان سمير يطمئنه.
أردفت السيدة قائلة :
– مابك أمير ؟ مالذي يخيفك؟ أهو ذاك الشخص الذي كان يشد خناقك؟
-وهل رأيتني معه؟
أجابها الطفل.
-نعم وكنت سأتدخل لولا أن الله أراد بك خيرا وأرسل الشرطة لتنقدك !
أخبرته السيدة وردة.
أطرق الطفل أمير قائلا:
-لا.. لا سيجهز علي كما أجهز على الروبي…
ثم وضع يده على فمه وحاول الركض بعيدا عن السيدة، إلا أن سمير كان خلفه مباشرة فأوقفه ثم، قال له:
-السيدة الان معنا وستساعدنا، لا تخف اطمئن فقط ثق بها فهي ملاك أرسله الله لنا!
تدخلت السيدة قائلة :
-من اليوم فصاعدا لن أترككما لوحدكما سآخذكما معي وأعاملكما كفلذات كبدي، أعيش لوحدي، أحتاج من يكون معي كما تحتاجان من يحفل لأمركما .
تبادل الطفلان النظرات و بدت على محياهما مظاهر الفرح فركضا صوب السيدة وعانقاها فيما كانت دمعة الفرح قد انسابت من مقلتيها، أخذت بيديهما وانصرفت من ذلك المكان.
بعد أن ارتاح الطفلان طلبت السيدة من أمير أن يقص عليها ما شاهده من جرم ذلك الشخص الغريب فأخبرها قائلا:
-ظهر ذلك الشخص فجأة، وأخذ يطلب منا التسول لصالحه ويأتي كل مساء ويأخذ منا ما جاد به علينا المارة لينفقه على الشرب والتدخين، الأمر الذي لم يستسغه الروبيو، وهو متشرد مثلنا إلا أنه كان يعاملنا كإخوته ويدافع عنا عندما تطالنا يد الظلم، وذات مساء وبعد أن حل ذلك الغريب يطالبنا بالمال كعادته، تدخل الروبيو ووقف في وجهه إلا أن ذلك المعتوه سل مدية وغرزها في صدره وبعد أن سقط الروبيو هددنا الغريب بنفس المصير إن حدث وأخبرنا أيا كان!
ذهلت السيدة أمام ما سمعت وبدأت تفكر فيما ستقوم به فهناك مجرم طليق!
في اليوم الموالي لم تتردد السيدة وردة في الاتصال بالضابط سعيد صديق العائلة فأخبرته بقصة الطفلين وقصة ذلك المجرم، فتحركت عناصر الشرطة بعد أن استعانت بالطفل أمير لرسم صورة لوجه الغريب لم تمر سوى ساعات قليلة حتى كان في قبضة الامن ليرتاح منه الشارع!
تكفلت السيدة وردة بأمير وسمير، ومع حلول السنة الدراسية كانا ضمن التلاميذ الجدد لتلك السنة ليتمما دراستهما التي توقفت بسبب تخلي أمهما عنهما، أما الغريب فقد أدين بسنوات طوال من السجن لارتكابه جرائم عديدة بمدينة أخرى قبل أن يحل بهذه المدينة.
عبد السلام بزيد – مدينة أيت إعزا
ليس كل من يمسك القلم قادر على الإبداع،عبد السلام بزيد فنان كاتب تتراقص الكلمات و القلم بين يديه،عبد السلام بزيد يرسم بالقلم لوحات إبداعية جميلة كل حرف يضعه يكون بمقاس هو بالنسبة لي مصمم و ليس كاتب عادي.