تمتمت بالشكر لحفيد أو ابنتي أو أخت زوجتي لا أدري حقيقة فكل الصور باتت الآن متشابهة..متداخلة فيما بينها، حتى الأصوات باتت كفحيح أفعوان أحسها تتردد داخل رأسي.
بيد مرتجفة تسلمت كأس ماء دلقته بتؤدة محاولا فك معالم صورة طفل أو قارورة غاز أو قط أو لا أدري ماهية الشيء القابع أمامي.
اليوم أكون قد أسدلت الستار على سنواتي الثمانين أو التسعين ومن يدري؟
إلا أنني لم اسأم تكاليف الحياة كما سئمها زهير بن أبي سلمى، الذي أظنه سئم من الحياة رتابتها بالفيافي التي كان يذرعها، والغبار الذي كان يعتلي محياه كلما ركضت مطيته!
أما أنا فكنت متشبثا بالحياة، أعشقها إلى حد التخمة!
أهيم بالورود، بشروق الشمس وغروبها، بجمال المحيط وزرقته، منظر الجبال تكتسيها ألوان تسرق الألباب كغجرية غادرت للتو خدرها!
كيف لي أن أسأم هذه الحياة التي تجعلني مشدودا إليها وإلى كل هذه النعم؟
اليوم تيقنت أن لاشيء كان يستحق أن يهيض جناحي، حتى خروجي للبحث عن لقمة أواري بها جوعي خلال فترة الشباب لم تكن تستحق كل ذلك الحزن الذي أعود وأنا أجره معي إلى عشي، حتى الخذلان والطعنات التي تلقيتها من الخلان لا تستحق تلك الدمعات الساخنة التي سكبتها على خدي حزنا على غدرهم.
ها أنذا اليوم وقد فارقتني الجماعة وصرت فردا لا ونيس لي إلا هذا الذباب الذي أهشه ورغم ازعاجه لي الا انني أحسه ونيسا أغتال من خلاله ماتبقى من الوقت.
ها أنذا صرت كالحصير البالية التي يتبول عليها الصغار تخرج وتنشر لتصفعها خيوط الشمس حتى تتخلص من رائحة البول النتنة التي تزكم الأنوف، و تدخل مساء ليعاود الصغار التبول عليها مرة أخرى!
لم أكن نادما على شيء وأنا في أرذل العمر سوى تلك اللحظات التي كبحت فيها جماح ضحكاتي.
ألم يكن حريا بي أن أطلق العنان لضحكاتي؟
ها أنذا وقد بلغت من العمر ما بلغت ولم أحس أنني خلفت ورائي شيئا يذكر حتى عبوري من الصبا إلى هاهنا لم يكن سوى وميض سرعان ما اختفى!
أين اولائك الأصحاب والخلان والندماء الذين تبادلت معهم الأقداح وتراشقنا بالكلام حتى لاح الصباح؟
ترى أين تلك الرشا التي أسرت إلي ذات مساء ممطر عندما التفت الساق بالساق وذاب الجسد في الجسد أن لاشيء سيفرقنا سوى الموت؟
ترى أين راح الجميع؟
لقد كان حلمنا الوحيد خلال الصبا أن نكبر وتصير لنا لحي وشوارب وزوجات نركن لها خلال الليالي الباردة، ليتنا لم نحلم بذلك، كبرنا..هرمنا، وكانت أمنياتنا لو بقينا صغارا نلهو من طلوع الشمس الى غروبها، نتبع الفراشات الندية وهي تحط على أزهار عباد الشمس وتحلق كلما أحست بأيدينا المتربة قد اقتربت منها، نقطف الثمار ونعتلي الدواب طالقين العنان لقهقهاتنا التي تملأ المكان.
ليتنا ما كبرنا..ليتنا ما هرمنا !
أي لعنة هاته؟
أتكون لعنة ذلك الإنسان الأول الذي أعماه الطمع في العيش طويلا كما حكت لي جدتي ذات ليلة مقمرة!
سأحكيها لكم ولتكن آخر حكاياتي لكم.
قالت لي جدتي الحكيمة:
-عندما قرر توزيع الاعمار على المخلوقات منحت للحمار عشرون سنة فرفضها، بدعوى أنه لن يقوى على حمل الحطب والحرث و جلب الماء والأعمال البيتية خلال العشرين سنة القادمة، فرفضها في امتعاض.
أما الكلب فلم يكن عكس الحمار عندما منحت له العشرين سنة رفضا رفضا قاطعا بدعوى أن النباح طوال تلك السنوات أمر في غاية الصعوبة!
فجاء دور القرد فاخبره موزع الأعمار أن له في جرابه عشرون سنة يعيشها كغيره من الحيوانات، نط القرد من مكانه وكشر على أنيابه و أبدا للحاضرين مؤخرته حتى أنه حاول الإستمناء أمامهم فضحك الحضور!
فتوفف عما اصطنعه من تلك الحركات المضحكة وبعد أن رسم على ملامحه جدية أخبره أنه يرفض جملة وتفصيلا العشرون سنة تلك التي سيتحمل فيها السخرية من الصغار والكبار!
لملم موزع الاعمار سنواته و هم بوضعها في جرابه فسمع صوتا من بين الحاضرين فطلب منه التمهل قائلا:
-أنا الإنسان ابن الإنسان !
أجابه الموزع:
-ماذا تريد أيها البشري؟
أجابه بكبرياء:
-أريد أن أعرف كم عدد السنين التي رفضتها هذه المخلوقات؟
فأجابه:
كذا وكذا
فأطرق البشري قائلا:
– أطلب منك سيدي أن تضيف ما رفضوه إلى ما ستمنحه لي، لأنني أرغب في العيش طويلا حتى أستمتع بالحياة، فأنت تعلم سيدي أن العمر ومهما طال فهو جد قصير!
نظر الموزع إلى جرابه وتفحص وجه البشري و بإبتسامة ساخرة وكأنه يريد التخلص فقط مما يحويه جرابه طوح بتلك السنوات في وجه البشري ومنذ ذلك اليوم والبشري في شقاء وكأن لعنة ألقيت عليه،
لو عاش القليل لكان خير له، بدل أن يكون في أول حياته بشرا كائن جميل يركن له الكل، يملأ الدنيا بضحكاته وينثر إبتساماته عندما يروقه أمر ما، وبدل أن يصير حمارا بعد زواجه يغادر البيت صباحا وعلى عاتقه ما لا يستطيع الحمار حمله، ويعود مساء يتصبب عرقا محملا بأكياس بها قوت أهل بيته، ألم يصير حمارا؟
الم يستحوذ على العشرين سنة من عمر الحمار التي رفضها؟
يصير بعدها للبشري أبناء وبنات فيكثر اللغط والصراخ بينهم ويصير البشري بينهم كلبا ويكثر النباح دون شعور!
فيصرخ على هذا ويطلب من هذا أن يعطي لذاك لعبته و يطلب من ذاك أن يكف عن مضايقة الاخر، إنها لعنة العشرين سنة التي تخص الكلب، حملها البشري بعد أن رماها الكلب في وجه الموزع فكانت لعنة عليه.
فيصل البشري إلى ماوصلت إليه الآن على أريكة مهترئة متكئا على منسأة لا أفرق بين الأبيض والأسود لا أملك لنفسي حيلة، وقد كسا الشعر الأبيض رأسي ووجهي وعندما يقوم أحدهم بوضع الطعام في فمي الأحرد يتساقط منه فيسخر الصغار مني وهم متحلقون حولي وكأن لعنة العشرين سنة التي لهفها البشري من القرد ما تزال تلازمه!
الآن وللأسف استوعبت معنى القصة التي روتها لي مرارا جدتي الحكيمة، لكن بعد فوات الآن، لقد أدركت يقينا أن عمر الإنسان يتوقف عند بداية الستين سنة من عمر تلك الحيوانات.
أعمارنا الحقيقية قد تكون تلك السنوات التي كنا نلهو فيها، نركض دون أن نأبه إلى مطبات الحياة.
أعمارنا الحقيقية ربما قد تكون تلك السنوات الأولى التي تكون فيها قلوبنا بيضاء خالية من الغدر…الخيانة..وإضمار الضغينة لأي كان!
عبد السلام بزيد – مدينة تارودانت
اترك تعليقا