عبد الرحيم شراك يكتب: كيلو أحزان في وجدة

25 يناير 2020

أخيرا عدت لحبيبتي وجدة[1]، بعد غياب سنة كاملة بسبب الدراسة  في مدينة تطوان. كنت أفكر طوال الوقت في عشقي السرمدي لمدينتي عندما كنت في الحافلة، في الحقيقة بدأت أشم رائحتها الزكية منذ وصلنا لبلدة بني درار[2] رغم أنها امتزجت برائحة الشواء المنتشر هناك. لا أعلم لماذا يحب أهل وجدة مدينتهم لهذه الدرجة ؟ فهناك سحر غريب يربطنا- نحن الوجديين – بها و سيشاطرني الرأي بالتأكيد كل من غادرها و عاد إليها بعد مدة ! أحس بشعور ليس له مثيل بعد أن خطوت أول خطوة على أرضها الطاهرة، كم أغبط نفسي  !أريد أن أتجول في كل مكان بها،  أرغب في القيام بالكثير من الأمور… و لكنني آمل أن تكفي هذه العطلة القصيرة لكل مشاريعي .

بعد لقاء حار بأفراد الأسرة، ارتحت قليلا من عناء السفر في غرفة الضيوف ثم استمعت لقصصهم و حكاياتهم واحدا تلو الآخر. كان الأمر أشبه بحلم كبير تم تحقيقه. فشوقي لأسرتي و بعدي عنهم جعلني أبقى في المنزل مدة يومين كاملين بعد عودتي، إلى أن قررت الخروج أخيرا لرؤية العالم الخارجي . كانت أمامي لائحة كثيرة لزيارات الرحم و التي لا بد من القيام بها ، كما توصيني والدتي دائما بأخذ الحليب أو “قالب” سكر و هو الهدية التقليدية التي يأخذها المغاربة عند زيارة الأقارب، أو على الأقل شراء الحلويات للأطفال فهذا الأمر يسعدهم. لكنّني فكرت جيدا و قررت ألا آخذ معي رفيقا إلا سلتي، قد يبدو الأمر غريبا، لكن هذا ما فعلته ! فقد اعتدت على ذلك لسبب من الأسباب، لكنها تثير الشكوك حولي دائما. و في نفس الوقت لا أتخلى عنها أبدا في أي زيارة من زياراتي ! ربما لأنها تعيد لي ثقتي بنفسي عندما أحس بالضعف … ربما !

انطلقت جولتي برفقة سلتي في المدينة، كنت أرغب أن أتمشى في كل بقعة من هذه المدينة المباركة. و أن  أتكلم مع الطرقات و أشم رائحة الجدران و البنايات … بدأت كالعادة بزيارة منزل جدّي ، فكان يحكي عن الحرب أيام الاستعمار و أمور أخرى عاشها لا زال يتذكرها كأنها وقعت في الأمس فقط .أما جدتي فكانت تنهره باستمرار ألّا يحكي لنا عن “خزعبلاته ” كما تصفها هي و التي يعيد حكايتها للمرة الألف ربما، و تنصحني دائما بنصائح كثيرة في الحياة. ثم تختم كلامها دائما بتقبيلي، ثم تدعو الله أن يبعد عني ” أولاد الحرام “. فيبدأ نقاشهما المعتاد، لكنهما يحبان بعضهما البعض رغم أنهما في هذا العمر. كنت أصغي باهتمام لما يقولانه واضعا سلتي بجانبهما ، و قد اعتادا على ذلك الأمر لذلك لم يسألاني عن السبب. وبعد أن ودعتهما اتجهت فورا نحو منزل خالتي التي أحسست أنها من أحزن الأشخاص في العالم. رغم أن زواجها يبدو كأي زواج في هذه الحياة،  إلا أنها تضحي كثيرا من أجل أطفالها. حاولت أن تربيهم و تدرسهم لوحدها، لأن زوجها يبقى طوال الوقت خارجا و لا يهتم بأمور أسرته. كل هذه المشاكل لم تسقطها أرضا، بل زادتها قوة فما زالت تريد البقاء و الاستمرار و النضال وحيدة من أجل أطفالها. لم تبخل خالتي المسكينة بدموعها التي سقطت على الأرض .فجمعتها و مسحتها بمنديل أحمله معي ثم وضعتها في السلة خلسة، بعد أن ذهبت للمطبخ لإحضار طبق من حلويات “كعب الغزال” الذي يعجبني.

أما عندما زرت منزل عمتي التي لا يأتي إليها أحد، فقد استقبلتني بالتمر و الحليب كما يُستقبل العرسان في تقاليدنا. جمعت منها بضع دموع هي الأخرى، فقد حكت عن أحزان كثيرة تملأ القلب بسبب الوحدة القاتلة التي تعيشها بعد وفاة زوجها و هجرة أولادها للعمل في الخارج. في كل زيارة أفتح سلتي بطريقة تثير الريبة و أحاول ما أمكن ألا يراني أحد، هي تبدو فارغة بالنسبة لجميع الناس إلا أنا، فهي سلة مميزة بالنسبة لي. أضع بها المناديل المبللة بدموعهم و أحزانهم كي أحملها معي.

ما إن أكملت زيارتي الثالثة حتى رنّ هاتفي ،كان المتصل صديقي أيمن طالبا مني الجلوس معه في المقهى . اتجهت فورا إلى المكان المطلوب كي ألتقيه. كانت ملامح وجهه حزينة بشكل لا يطاق. كما كان مشغولا جدا بالاستعداد لعرسه و التحضير لكل ما يلزمه، لكنه بحاجة إلى الكثير من المال. لم يجد هو الآخر حلا إلا ذرف بضع دموع رجالية بخجل. حاولت الترفيه عنه و وعدته بالمساعدة إذا وجدت طريقة ما ، لكنني فعلا أشفقت عليه جدا فقد كان في حالة يرثى لها . بعد نهاية اللقاء لاحظت أن سلتي بدأت بالامتلاء، أخشى أن يتطور الأمر لما لا يحمد عقباه !

 في كل مكان بهذه المدينة ، من باب “سيدي عبد الوهاب” و الباب “الغربي” في وسط المدينة وصولا إلى “لازاري” و حي “كولوش” مرورا بأحياء أخرى. قطعت المدينة طولا و عرضا، من شمالها إلى جنوبها… تأتي الأخبار الحزينة الواحدة تلو الأخرى، من حيث لا تدري. كأن الأحزان تقدم هنا بالكيلو أو أكثر ، لو كانت هناك وحدة لقياسها. استمعت لعذابات الناس وفي أحيان كثيرة ، كنت أحبس دموعي رغما عني. و أتظاهر بالقوة و أتفاءل رغم أن الواقع غير ذلك. كل واحد يروي همّه و شجنه ، فيما أحاول التخفيف عنه بشتى الوسائل رغم أنني لا أجيد هذا الفن أبدا. فأنا بالكاد أنجح في رفع معنوياتي. و لا يشهد على هذه الأحزان إلا أنا و سلتي الكتومة هذه. اعتقدت أنني سأرفّه عن نفسي في هذه الأيام بمدينتي، لكن العكس هو الذي حصل للأسف الشديد.

اشتقت في الحقيقة إلى أهلي، أردت أن أحكي لهم عن مدى حبي لهم و أيضا عن عذاب العيش في مدينة بعيدة. رغبت في أن أقص عليهم قصصا عن معاناتي ، و أمور الدراسة و فشلي في المسابقة الرياضية. و حتى السرقة التي تعرضت لها و إهانات ذلك الأستاذ الظالم. لم أحك عن هذه الأمور قط. ربما قد أبوح بما في جعبتي لاحقا، لكنني لم أستطع في الأيام الماضية !لم أرد أن أثقل كاهلهم و أملأ آذانهم بالمزيد من الأحزان. لم أجد حلا سوى إفراغ جزء من دموعي في سلتي عند العودة للمنزل بعيدا عن الجميع، فالرجال لا يجب أن يبكوا في نظر الناس. أصبحت السلة ثقيلة جدا في هذه اللحظة ، و فوق قدرتي على الاحتمال. لقد امتلأت عن آخرها و الأمر بدأ يخرج من السيطرة هذه المرة !

حبست نفسي في غرفتي بعنف لمدة أيام طويلة بعد ذلك. أحسست بكل أنواع الكآبة و اليأس التي يمكن أن يشعر بها أي كائن حي. فكرت كثيرا في كل ما جرى. كان الأمر يزداد سوءا يوما بعد يوم حتى فقدت شهيتي للطعام، و حتى حبي للحياة !  غمرتني تساؤلات كثيرة في داخلي ، لكنني لم أجد لها أجوبة مناسبة ! كم تمنيت أن أملك عصى سحرية لأخفي بها كل أحزان هذا العالم ! لكن هذا الأمر مستحيل تماما !

لم أعد قادرا على فعل أي شيء ! فكرت جديا في إنهاء هذه الحياة الحزينة. ركبت في سيارة أجرة كبيرة دون أن يعلم أحد. انطلقت أنا و سلتي في اتجاه شاطئ رأس الماء[3]  في البحر الأبيض المتوسط. تحركت و كل جزء من جسمي يرتعش. اختلطت دموعي مع ماء البحر هناك. أحسست بالارتياح عندما سمعت صوت الأمواج. أمسكت سلتي بهدوء و أفرغت كل ما فيها، ثم غسلتها جيدا كي أبدأ حياة جديدة صافية في الأيام القادمة.

[1]مدينة تقع في شرق المغرب

[2] بلدة قريبة من مدينة وجدة المغربية

[3] مدينة مغربية شاطئية في الشمال الشرقي للمغرب

 

.

.

عبد الرحيم شراك – مدينة وجدة

اترك تعليقا

لن يتم اظهار بريدك الالكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها *

: / :