*أمي الحنون:
أكتب إليك من خندق يطوف عليه الحمام، يعتام ويصطفي رؤوسا وكأنها أينعت وحان قطافها، مر شريط حياتي كله أمام عيني, وبكلتا يدي أشد بندقيتي مسندا ظهري إلى حافة الخندق.
أكتب إليك أمي والدمع يملأ العيون وتنكسر من الحزن الجفون، لا خوفا من الردى، بل على مقلتيك حين يصلك نعيي!
تتطاير الأيدي والأرجل واختلطت أصوات الكمائن بأصوات الضحايا والهلع قد تملكني،!
دون شعور؛ طفقت أردد أغنية المساء التي كنت ترددينها لنا قبل موعد النوم, وكأني أرتل تراتيل الوداع، متحسرا على كل لحظة ضيعتها بعيدا عن حضنك!
أماه:
إن الموت الذي كنا نخشاه في الصبا صار وشيكا، والموتى الذين كانت قبورهم تدخل الرعب في أفئدتنا الصغيرة صاروا لصيقين بأجسادنا التي ركبها الوجل.
لن أخفيك أيتها الرائعة كم سأشتاق لحكاياك التي لا تنضب، وكأنك خلقت لتخففي عنا غياهب الليالي القروية وسوادها!
غاليتي:
لو طلب مني أن ارسم آخر ذكرى لآخر ليلة قضيناها سويا، لرسمتها مستعينا بذاكرتي التي يستحيل أن تغفل عن أبسط الذكريات وإياك.
سأتذكر غياب الوالد الذي لا احتفظ له بذكرى، وسأتذكر مشاجرتي وشقاوتي مع أبناء الجيران..خروجي في الظهيرة خلال حرارة الصيف، قاصدا الوادي رغم منعك المتكرر وحبسي في الغرفة الخلفية، إلا إنني كنت أتسلل بعدما تاخذك سنة، فأهرول للانضمام إلى بقية أبناء الجيران..سأتذكر ليالي الصيف وأعراس الجيران، فقيه المسجد وحفلات الفقهاء التي كنا ننتظرها بشغف لننعم ببقايا الطعام..سأتذكر خروجي ليلا رغم منعك لحضور رقصات الفولكلور، و مغازلة بنات القرية..سأتذكر اللوح الذي حفظت فيه بعض الآيات من الذكر الحكيم…رائحة الصمخ و الصلصال..قصب الكتابة على الألواح وحصة استعراض ماحفظناه عصرا أمام الفقيه!
حصة السلخ التي كنا نتلقاها بين الفينة والأخرى على يد الفقيه..البيض الذي كان يلهفه منا يوم الأربعاء.
لن أغفل عن أي شيء يا أماه حتى بعض الأمور التي قد تخالين أنني لن أتذكرها!
أماه:
راحل أنا لا محالة، دعيني أخبرك ما لم استطع أن أخبرك به من قبل.
دعيني أخبرك أنني لطالما رغبت تقبيلك على وجنتيك وضمك إلى صدري، لكن تربيتنا البدوية لا تسمح لنا بذلك.
دعيني أخبرك الآن وبعد فوات الأوان أنني لطالما رغبت في البوح لك وإخبارك أنك حبي الوحيد الذي لا شك فيه.
دعيني أخبرك أنك وإن وضعوا كل مجرات الدنيا في كفة؛ ووضعوا جزرها و بحارها في كفة على أن أنسى لحظة من لحظاتي معك مانسيتها أو حتى تغافلتها.
دعيني أخبرك يا حبيبتي أنني ورغم ضحكاتي يوم وداعي لك و تصنعي الفرح وأنا أقبل ناصيتك مغادرا..متوجها إلى المجهول وبعد الفراق انداحت دمعاتي الحزينة على خدي ساخنة معلنة على انزلاق الذكريات الجميلة وتلاشت كما تتلاشى الآن اللحظات المتبقية من حياتي.
دعيني أخبرك أن حظي كان عاثرا منذ صرختي الأولى..فتحت عيني على الدنيا بصرخة..بدمعة وها أنذا أغادرها بدمعة وابتسامة تحمل في طياتها سخرية مميتة!
أماه:
حين رحلت واستقر مقامي في مكان قصي سألني أحد الرفاق عن الشيء الذي افتقده كثيرا، ودون تردد أخبرته أنني افتقدت رائحتك!
فتساءل الرفيق إذ كانت لك رائحة، حدقت في وجهه مليا متسائلا في قرارة نفسي كيف لا يعلم هذا المسكين أن للأم رائحة تميزها عن باقي النساء!
التفت اليه وأخبرته بذلك..أي نعم لها رائحة تضاهي روائح الدنيا كلها..تفوق رائحة الخزامى وروائح الأترنج أو حتى رائحة مسك الليل، فاستغرب الرفيق من ذلك!
وعلمت فيما بعد أن اليتم لازمه منذ صباه ..ما أقسى أن تعيش بلا أم!
دعيني أخبرك، أنني تذكرت يوم وعدتك أنني سأعود لأحقق ماتمنيته وبحت به لإحدى صديقاتك، وكنت ساعتها متصنعا النوم وسمعتك تخبرينهن أن لا شيء يضاهي فرحتك وأنت تزفينني عريسا إلى عروس أنت من ستختارينها لي من القرية.
لقد خذلتك يا أماه..لن أعود فالرياح تجري غالبا عكس الأشرعة.
لقد أخبرت مسبقا المسؤول عن الاتصال أن يطلب من الجنود أو ممن كتب لهم البقاء أن يتفقدوا جيب بدلتي وأن يسلموك هذه الرسالة، تقرئينها في حضرة الجارات والصويحبات وتطلبين منهن أن يزفونني بالزغاريد عريسا إلى الجنة، فابنك شهيد بإذن الله، وكلي رجاء أن تشدي دمعك فلا شيء أقسى على قلبي بعد بعدك من لحظة سيلان دمعك، حينها تكون المصيبة مصيبتين، رحيلي وبكاؤك!
أماه:
خلال الأيام الفائتة الكل كان يحدثني عن علامات الساعة، وكنت أحدثهم عن الساعة!
لقد أحسست بشيء مريب خلال الأيام الماضية وتيقنت الآن أن هذه اللحظة عشتها مسبقا وأن هذا الخندق تراءى لي في حلمي..في يقظتي وها أنا الآن ممض إلى لقاء ربي.
سأكون سعيدا لو تصدقت بكل أشيائي التي احتفظ بها بغرفتي..ملابسي أحذيتي وزعي صوري على كل الأصدقاء واتركي ذكرياتي تعم المكان.
كل شيء يهون سوى الذكريات حافظي عليها من التلاشي ..من الاندثار.
أستودعك الله الذي لا تضيع ودائعه…رصاصة اخترقت خوذتي فأصابت رأسي لا حيلة لي.
الجثث بكل مكان..ضباب كثيف..سراب..دم..رائحة الدم والبارود..طريق موحلة..أراني أركض بفدان لحظة الختان..مطر شديد زغاريد.. أمعاء خروف العيد.. زرع..موسم الحصاد..البيدر..حفل الحناء..صوت الخلخال ودق الدفوف..كراسات ..تطاير الأوراق.. البرتقال..العنب..سورة يس..ظلام دامس!
عبدالسلام بزيد – مدينة تارودانت
اترك تعليقا