تعتبر رواية “زينة الدنيا”، من أهم الأعمال الروائية المغربية التي صدرت مؤخرا، عن المركز الثقافي العربي، وهي رواية للكاتب المغربي المرموق “حسن أوريد”، جاءت لتكمل المسار الأدبي المرصع بأعمال أخرى كرواية الموريسكي وربيع قرطبة، وهي أعمال تحمل بين ثناياها ما عاشه المسلمون بالأندلس عبر فترات طويلة، بنظرة لا تخلوا من الرمزية الأوريدية التي يكتب بها الماضي لتعبير عن الحاضر.
و “زينة الدنيا”، هذه لا يمكن تصنيفها ضمن خانة رواية بقدر ماهي فكرة، أو مشروع فلسفي إنساني بحس روائي وتوظيف تاريخي لتذكير الأجيال الحالية بماضي هذه الرقعة الواسعة التي كانت تحت الحكم الإسلامي، وتحكي عن فترة تولّي وتغلغل الحاجب بن عامر، الحاكم الفعلي للأندلس، والمتحكم في شؤون البلاد من وراء الخليفة هشام بن الحكم الذي خلف أبوه “الحَكم”، بعد وفاته، ولم يصل لسن يخولّه إدارة شؤون العباد والبلاد فكان تحت سلطته أمّه صبح، التي كانت تقود البلاد إلى جانب ابن عامر، عبر صفحات الرواية التي تصل لما يفوق 600 صفحة.
لقد استوحى الكاتب حسن أوريد عنوان الرواية وفكرتها من الباحثة الإسبانية ماريا روزا مينوكال، التي أصدرت كتابًا بالعنوان نفسه لكشف حقيقة المجتمع الأندلسي تحت حكم المسلمين، وردا على النظرة الغربية السائدة عن الإسلام، التي تتلخص في أن هذا الدين كتلة أحادية جامدة لا تؤثر على غيرها من الثقافات ولا تتأثر بها، وتفتقر بالكامل الى مفهومي التسامح والتعايش السلمي.
“زينة الدنيا” تنقل لنا حياة الأندلسيين وعيش الأجناس المختلفة، والديانات المتعدِدة والتقاليد واللغات والأعراق، والتي شكلت نواة المجتمع هناك، عيشة ود وحب وسلام في رقعة واحدة، دون صراعات أو تطاحنات، فلم يفرض المسلمون الدين الإسلامي على غيرهم، ولم يُهزأ قط بلسان الآخرين، أو أن يتحوّل من عقيدة إلى أخرى بالكره، وقد تحقق ذلك بعيدا عن لغة الاستبداد والتجبر، والانتصار لروح السلطة والعرق، فالحياة في الأنس تميزت بكل ما يصون كرامة الناس، ويحفظ مروءتهم، بمعنى أن لا يقع انشطار في علاقة الحاكِم والمحكوم، والعالِم والمتعلِّم، والبالغ والصبي، وأن تكون هناك علاقة متكاملة بين الرجل والمرأة. فزينة الدنيا بالنسبة للكاتب وبالنسبة لزيري هي مشروع في مسار الإنسان، وهي أيضا آمال وأمنيات قد تتحقق في مجتمع يحترم الإنسان بمعناه الروحي والفكري.
شخصيات الرواية تتوزع بين شخصيات حقيقية “الخليفة هشام بن الحكم”، أمه “صبح” ثم “الحاجب جعفر ” بالإضافة إلى “الحاجب ابن ابي عامر” وأخرى متخيلة تعرفنا على جزء منها في رواية “ربيع قرطبة ” تتداخل فيما بينها في حوار عبر أحداث الرواية التي بشكل تصاعديا منذ البداية وحتى النهاية: بداية وذروة وانحدار مع بطل الرواية المتخيل “زيري”، ذلك الشخص الأمازيغي الذي انتقل من عدوة المغرب للأندلس من أجل التعلم، لما عرف عن الأندلسيين من العلم الوافر.
شخصية زيري هذا يلعب دورا مهما في بناء الأحداث ونسج خيوطها، سواء في علاقاته مع شخصيات العمل المختلفة الانتماء الديني والعرقي (اليهود والمسيحيين والبربر و المولدين)، أو لما يشكله من تهديد لبطل الرواية الحقيقي الوجود “الحاجب ابن ابي عامر المنصور” الرجل القوي المتعصب لرأيه و الذي يعتبر ان الغاية تبرر الوسيلة.
هذه الأحداث هي مزج بين ما هو متخيل وما هو مؤرخ، تجيبنا عن أسئلة يتم طرحها عبر تاريخ الإنسانية منذ أن أصبح الإنسان كائنا سياسيا يعيش مع باقي أفراد جنسه داخل مؤسسات ثقافية: حول الحكم وطبيعة السلطة السياسية ودور النخبة وتواجد الأقليات العرقية والدينية ومدى تعايش الكل داخل هذه المؤسسات وذلك على لسان “زيري” و “باشكوال” باعتبارهما رمزا للإنسان المفكر الفيلسوف الذي يحلم بعالم أفضل.
أحداث الرواية شيقة ومثيرة في شقها المتخيل في أطار من الثقافة الأندلسية بلغة جميلة تتخللها حوارات باللغة الأمازيغية بحكم ان من أبطال الرواية الأساسيين امازيغ من عدوة المغرب وكذلك العربية بلكنة يهودية وحتى قرطبية وهذا أضفى طابعا ساحرا وواقعيا على العمل لكن أيضا وعلى مستوى اللغة دائما استخدام مصطلحات سياسية لم تكن متواجدة في المعاجم اللغوية في الفترة التي تغطيها الرواية “الأيديولوجية مثلا” مما يقطع التماهي مع الرواية، فالأندلس بكل ما جمعت من أقاليم وأعراق وأديان ولغات كانت مسرحًا لأحداث الرواية، بينما كانت لغة السرد لحنها الأخّاذ، مثخن بكل ما له من حمولة ثقافية وفنية وتاريخية في نسق واحد، يجعل المتلقي أمام لوحة فنية من فسيفساء الأندلس.
لم تعمل الرواية على توظيف التاريخ كما العادة في أعمال أخرى، كتاريخ الحضارة الإسلامية أو الحروب بين المسلمين والمسيحيين، أو بين السنّة والفاطميين كشيعة، إنما لطرح قضايا حافلة بالصراعات الدينيّة، والعرقيّة الناتجة عن التقلبات والدسائس الداخلية بين أصحاب السلطة، بهدف تتبع سيكولوجية الحاكم وفهم آلية الاستبداد التي تشوّه نفس كل من ينال السلطة.
شخصية “زيري” شهدت كل الأحداث من خلال فترة خدمته لدى الحاجب ابن عامر وقبله الخليفة الحَكَم المستنصر بالله، ومن خلال الأدوار التي تنكّر بها لإخفاء هُويّته في محاولات عديدة للنجاة من بطشهم، أصبح عارفا لما يدور بين بلاط الحُكم بكل دسائسه ونفاقه وهشاشته الداخلية وجبروته الخارجي، وبين رحاب بيت “باشكوال” صديقه وأباه الروحي، فكان العارف بالواقع في تلك البقعة من الأرض التي احتوت فكرة العيش المشترك بين اليهودي والمسلم والمسيحي، حيث جمعت اللسان البربري، الأمازيغي، العربي واللاتيني في عقد فريد، واتسعت دائرة الفهم الضيق للدين والسياسة واستغلال كل منهما للآخر.
وتنتهي هذه الزينة لمآل كل طاغية حين يصيبها الجنون والاستفراد بالسلطة والثروة والرأي، اليد الطويلة والبطش، وعالم الحاشية القائم على التملّق والتزلّف والمديح والزيف والخوف، فالخوف هو الشعور المسيطر في أي نظام مُطلق، حيث يخشى الحاكم من أعدائه، وتخشى الحاشية من نزوات الحاكم وتقلباته، وتخاف الرعية من أزلام الحاكم، ثم يتمخّض الجنون من عالم الخوف، يتلازم جنون الحاكم وخنوع الرعيّة، جنونه يُبقي الرعيّة في الخنوع، وخنوعها يُضاعف من جنونه.
لقد عبّرت الرواية بمنتهى الصدق عن علاقة الحاكم بالمحكوم، والتي يحاول الإنسان التستّر عليها في الواقع، أو يحاول إلباسها لباس الحِجّة والضرورة والمبررات الواهية.
ضمير عبد اللطيف_الجديدة
اترك تعليقا