مما لا شك أن حضور الأب في روايات الأدب المغربي قديما وحديثا ظل مرافقا للتسلط والقهر والإستبداد، مجردا من كل الأحاسيس والمشاعر التي يحتاجها الطرف الآخر داخل الأسرة، سواء تعلق الأمر بالزوجة أو الأبناء.
لقد صورت لنا جل الروايات المغربية الأب، كتيمة ملازمة ومرتبطة، بالسلطوية المبالغ فيها والإستبداد الذي يعيش جحيمه كل أفراد الأسرة التي يعيلها، فالأب في نظرهم، كما وظفه العديد من الكتاب الروائيين المغاربة، مجرد من المشاعر و الأحاسيس، ميت القلب، همه أن يعيش عالة على زوجته وعمل الأبناء، و عادة ما يكون ذلك الشخص المتهاون في القيام بواجبات تجاه الأسرة، متعاطي للمخدرات والخمر، يقضي جل وقته في المقهى أو الحانات، يسامر أصحابه، يقامر بما ملكت يداه من عرق أطفاله واتات بيته، وحصرت الأبوة كلها في زاوية ضيقة تكاد ترسم لنا صورة سودوية للأب المغربي المكافح، الواقف في مواجهة كل التحديات.
الرواية المغربية عجزت أن تصور لنا ثقافة الأب داخل البيت في تربية الأبناء ورعايتهم، وأن السلطوية التي يمارسها تدخل ضمن المهام المنوطة به حتى لا يخرج الأبناء عن طريق الاستقامة وسلطة المجتمع المغربي، كما أنها عجزت إلى حد كبير جدا في التطرق إلى القضايا الكبرى التي جعلت منه رجلا عاجزا عن أداء دوره داخل البيت، واكتفى الكتاب في رسم الصورة التي تبخس قيمة الأب المغربي.
وعلى العكس من ذلك نجد أن الرواية المغربية كانت رحيمة ومتعاطفة مع شخصية الأم، فتوظيفها بالصورة التي رسمت لها يعطينا الفارق الكبير بين الجنسين، فنحب الأم في وقعنا وفي الرواية، ونكره الأب في الرواية كما نبتعد عنه في الواقع، فكانت بهذه المعادلة هي الشخصية التي تكافح دوما لوحدها هي التي تكافح من أجل لم شمل العائلة، تخرج الى العمل في الصباح وتؤدي مهمتها داخل البيت مساء، تعطي اموالها لزوجها السكير وتصبر من أجل الأولاد، فنحصل على الصورة التالية، غياب دور الرجل في تحمله لهذه المسؤولية، وتشمير المرأة على سواعد الجد وخروجها للعمل في الحقول والبيوت متحملة بذلك مسؤولية تربية الأبناء، المنزل والزوج أيضا.
وهنا أقف عند رواية الخبز الحافي المثيرة للجدل، هي نموذج حي وإحدى أهم الرويات المغربية التي عرفها العالم، وحملت معها هموم الطبقة المغربية الفقيرة في زمن الإستعمار، وما أظهرته من فشل للرجل في تحمل المسؤولية، ورغبة من حوله في التخلص منه.
صاحب الخبز الحافي محمد شكري، هذه الرواية التي حولت الى فلم وتم ترجمتها إلى لغات العالم أجمع، تحكي عن طفولة هذا الكاتب المغربي إبن الشمال وما عاشه، وبعضا من معاناته مع أبيه والظروف المحيطة به كالإستعمار والمجاعة، التهريب، المخدرات وغير ذلك.
يحكي محمد شكري بشكل كبير في هذه الرواية عن موضوع مهم تعيشه جل الأسر المغربية بإختلاف طبقاتها وتوجهاتها، إنه التسلط الأبوي الكبير الذي يمارسه الأب على ألأم، المرأة الضعيفة، المغلوب على أمرها، التي تنصاع طوعا وكراهية لأوامر زوجها مهما كانت مجحفة، وهذا ما مارسه أب شكري عليه وعلى باقي اخوته، عندما قام بقتل أخيه عبد القادر الطفل الصغير الذي كان يبكي من الجوع، بسبب فشل الأب في عدم توفير مستلزمات بيته ما تحتاجه الأم من أجل إعداد المأكل والمشرب، ولم تتوقف ممارسات الأب عند هذا الحد بل تجاوزها الى ضرب زوجته وإرغامها على أفعال لا تطيقها، لكنها ظلت تدافع عنه وتحذر إبنها محمد من قلته.
وإتسمت علاقة محمد بوالده بنوع من التوتر والصراع، وإن كان مظهر الطاعة يبقى فقط ظاهريا، محكوما بسلطة الأب الصورية، أما باطنيا فهو يتمنى قتل أبيه وتخليص أمه وأخته من هذا الأب المتسلط، وقد ظهر ذلك عندما ألزمه بالعمل في سن صغيرة بمقهى الحي، حارما أياه من الدراسة وأبسط الحقوق التي يتمتع بها أقرانه، وما زاد من حقده له، هو ذلك المقابل الذي يتقاضاه عن عمله كان يأخده ولا يترك له أي شيء، يصرفه في شراء الخمر والمخدرات، كل المال الذي يحصل عليه نهاية كل شهر، كان يذهب إلى تجار المخدرات والحانات.
ان الفشل الذي كان يواجه الأب خارج المنزل لم يكن ليمر مرور الكرام دون أن يكون له تأثير على الأسرة ومحيطها، فقد كان يصب جام فشله على الأبناء والزوجة، فقد تعرض محمد وأمه إلى الضرب والركل والرفس لأسباب تافهة، وأحيانا نتاج عدم تحمله المسؤولية التي يقوم بها أي رجل في بيته” فقد ضرب محمد لأنه تمرد على رب العمل وعاد إلى المنزل”، أما الزوجة فكلما حاولت أن تتكلم كان يوبخها بالشتم والسب، ثم الرفس والركل، ليظهر نوعا من الرجولة والشهامة، أمام الآخرين.
إن التقاليد الشعبية المغربية والإسلامية التي تدعوا الى ضرورة احترام الزوجة لزوجها والإبن لأبيه، سمحت للأب ان يمارس سلطته القهرية ويعيث فسادا غير مهتم بمن حوله، هذه السلطة يحولها الأب الى تسلط، تكون نتائجه وخيمة على الأسرة والمجتمع ككل، فهو الذي ينتج لنا مشردين ومجرمين، أميين ومنحرفين لأن أساس نجاح الأسرة هو تظافر جهود الأب والأم، وأن يسود الود والسلام فالإحترام في كل بيت حتى نكون مجتمعا أفضل.
مجمل القول أن أي أدب هو نتاج لما يعيشه مجتمع كاتبه، وجل ما كتبه المغاربة عن الأب كان رمزا سلطويا متجاوزا حدود اللباقة والليونة في التعامل، فحتى إن كان مقدا بأعمال منزله، تكون القسوة والسلطة صفتاه التي تلازمانه في كل قراراته وتصرفاته، وما رواية الخبز الحافي الذي ضربنا بها المثل، إلا عمل من بين أعمال كثيرة تناولت هذه الظاهرة، ولا ننكر أن هذه السلطة قد تكون إيجابية في بعض الأحيان لأنها أنتجت لنا محمد شكري وأمثاله كثر، واتاحت لنا قراءة فترة تاريخية من تاريخ المغرب، فلولا هذه الرواية لكنا نجهل أشياء كثيرة، غيرت النظرة الدونية للمرأة المغربية وأعطتها الكثير من الحقوق، وضمنت لها العديد من المكتسبات.
ضمير عبد اللطيف – مدينة الجديدة
اترك تعليقا