سمعت في يوم قصيدة تتحدث عن التوائم قائلة، ما مفاده أن من ولدوا فرادى أتماء وقريبون للكمال أكثر ممن بعثوا في بطون أمهاتهم مع أشقائهم، ما يطلق عليه اسم “التوأم”، يعني أنني وشقيقي كنا نكمل بعضنا ونؤنس وحشتنا ببقائنا متعانقين، من حظنا أن لوننا كان رماديا، كالكثيرين من أبناء جلدتنا.
كنا واحدا ولم نكن أبدا اثنين، ومن يوم خلقتنا ونحن في عناق طويل، اعتقدت أنه سيدوم أبدا وأننا سنبقى كذلك إلى أن ننتهي بطريقة ما، لكننا في الحقيقة كنا مخطئين، كنت اليمين وكان شقيقي اليسار أو هكذا اعتقدنا، لكن القدر كتب لنا طريقا مختلفا.
كنا في مجموعة مكونة من ثلاثة رزمات، لا أدري ما ان كان الآخرون توائم أشقاء مثلنا، فقد كانت كل مجموعة بلون واحد، لكن لم يطلع لهم صوت ولا حركة طيلة رحلتنا معا، عكسي وشقيقي كنا ثرثارين جدا وكانت الحياة بادية فينا.
في أول استعمال لنا، فض الخيط الرابط بيننا وبقيت خيوط رفيعة متطايرة من رأسينا على أثر الفض، وشعرنا بالألم والرعب إذ كان الأمر غريبا، وقد كانت تلك دهشتنا الأولى بالحياة، وكان ذلك الفض يشبه قطع الحبل السري للوليد.
ارتدانا سيد بقياس قدم أكبر منا، وسايرناه إلى أن انتهت المهمة، وأقحمنا ورجليه داخل حذاء رياضي برائحة عرق نفاذة ورطوبة مرتفعة، كان المكان مظلما ومخيفا، ولا أعتقد أبدا أن هناك شيء أكبر رهبة من الظلمة وسط كل تلك الظروف الخانقة، وإذ به بعد رحلة يوم طويلة، عاد للبيت متعبا وأخرجنا من حذائه النتن ومشي بنا نحن الإثنين المشدوهين فوق بلاط الأرض البارد الذي أنعشنا وأطفئ خوفنا، وخلعنا من رجليه ووضعنا واحدا وسط الآخر بطريقة مخجلة إذ أصبح كل واحد منا جوفه بالخارج وظاهره بباطنه وكان الأمر أشبه بجلوس بشري عاري قرب شقيقه، وبقينا على ذلك العناق المخجل ليلة كاملة.
في الغد عدنا لدوامنا، ارتدانا ثانية إذ أقحم أرجله العملاقة بجوفنا الصغير.. ثم وسط نفس الحذاء النتن الرطب، وجولة طويلة، بعدها عودة للبيت، وعناق مقلوب…
كان واقع استخدامنا مريعا جدا، من الشاق أن تكون جوربا، وتعيش كل هذه التفاصيل، قرفنا من رائحتنا ولم يغمض لنا جفن طيلة تلك الليلة، وفي الصباح كادت أن تتكرر المأساة، لكن لطف الله كانت له خطة أخرى، إذ قام بوضعنا قرب أنفه وتقزز للرائحة، وقام بفكنا عن بعضنا ووضعنا وسط الغسالة الآلية، لتنطلق رحلة معاناة أخرى، وهذه المرة إسمها “شقاق”.
كانت المرة الأولى التي أشعر بها بضياعي عن شقيقي، كنا ندور هناك كالفلك التائه الغاضب، واصطدمت بأشياء كثيرة،وعلقت في لحظة طويلة بجزام بدلة رياضية أقسمت ألا تطلق سراحي، ثم بعدها حوصرت بركن وراحت كل الأشياء تسطك بي، وكل همي كان، أية أهوال حلت بأخي وسط هذه القيامة؟
خرجت من هناك مقلوبا، اذ كان باطني هو ظاهري وتحول ظاهري لباطني، وبهت لوني ولم يعجبني ذوق الصاحب في إختيار مسحوق تصبينه، إذ كان حادا ولاسعا يتغلغل بأنسجتي، وبعد هذه الأهوال علقنا بأسلاك مرتفعة عن الأرض أشعرتني بالدوار لأنني أخاف الأماكن المرتفعة، وبعدها ركدنا في سلة الملابس النظيفة ليلتين، وفي اليوم الثالث جاء يبحث عن ملابس ليرتديها، والتقطني، وكانت الفاجعة.
لم يجد شقيقي، واضطر ليرتديني مع جورب رمادي آخر من نوع مختلف، وكان الخروج يومها يشبه المشي على السراط المستقيم، كان مع كل خطوة يشعرني بنقصي وحاجتي للشقيق، لكنني لم أدري أية أهوال حلت به داخل بطن ذلك الوحش الكهربائي.
بعد أيام من الوحدة والعناق المقلوب المحرج مع ذلك الغريب الرمادي الآخر، لمحت شقيقي، رفقة فردة أخرى من الجوارب، رفع صوته ليخبرني بأنه بخير، وأنه لم يعد يفرق بين يمين ويسار، وأنه أصبح صالحا للجهتين، وأخبرني بأن ثقبا صغيرا أحدث به وأنه بخير رغم هذا، وعزمنا أمرنا أن نلتقي بالمغسلة الكهربائية في المرة المقبلة، وهذا ما حدث حقا.
وضعنا بعد أيام داخل ذلك الوحش الطاحن، ومررنا بأهوال المرة السابقة، إلا أن هذه المرة كانت مختلفة، لأن الدهشة الأولى المتعلقة بها قد ألغيت نسبيا، وربطت العزم على أن ألتقي شقيقي، والتقينا هناك فعلا، لكن اللقاء قان قصيرا جدا ولم نتعانق بل إكتفينا بتماس أطرافنا، وبعد الخروج علقنا كالعادة، لم نكن قريبين من بعضنا لكننا كنا شاكرين لهذا اللقاء، كانت ملامح التعب بادية على ملامح شقيقي، وكان الثقب قد اتسع أكثر، وأخبرني أنه تعب جدا وبحاجة لعناق، وأخبرتنا جوارب أخرى أن الرجل أعزب، وأنه لن يقوم بترقيع الثقب بالإبرة والخيط، لأن هذه الأشياء من الإهتمام والرأفة تأتي من النساء لأنهن يقدرن الأشياء أكثر، وقال لي بصوت خافت أنه سيتخلى عن شقيقي غالبا في المرة المقبلة، فلا حاجة له بجورب رمادي متعب، وأن له جوارب كثيرة من نفس اللون والنوع تقريبا وأنه لا يأبه بيسار ويمين.
في المرة اللاحقة لهذا الحدث داخل المصبنة، لم ألمح أخي ولم أجد أخبارا عنه، وكانت كل قطعة أسألها عنه تدير ظهرها وتنخرط في تلك الأهوال متجاهلة لسؤالي، وأدركت لاحقا أنه تخلص منه، وأتت الأيام الأخرى ثقيلة شاقة، وشعرت بوحدة شديدة، وأدركت كم أنني بحاجة لشقيقي لأشعر بأنني تميم كما كنت سابقا، وأردت أن أحدث بنفسي ثقبا، ورحت أحتك بالأطراف الحادة حتى أفقد لوني وتتحلل أنسجتي، وبعد كل هذا علقت على حبل الغسيل، ولم أتحدث أبدا، كنت مليئا بالندوب والألم،وأغرقت مشاعري ذلك اللون الرمادي بالأسى والوحدة، ولم أستعمل بعد هذا اليوم أبدا، وبقيت مستلقيا مقلوبا ومنكمشا على نفسي داخل مكان مظلم واشتدت وحدتي.
عله ألقى بأخي دون أن يزيل منه رائحة النتن، وألقى به بشكل ما، وأبقاني داخل هذا المكان المظلم لمدة طويلة، نظيفا باليا ومقلوبا ومنكمشا، لا أدري ما ان كنت الآن ميتا أو حيا، كل ما أدركه الآن، أنني لست بنفس الكمال، ولست تميما.
شيماء الملياني ننتوسي – مدينة وجدة
اترك تعليقا