ارتفعت حرارة الصيف كأننا على بعد أمتار من أشعة الشمس اللاذعة، تحرق خيوطها الذهبية كل ما تلامسه، لكننا اكتسبنا مناعة أقوى ضدها تخمد قَيظَها مهما اشتد، بل ضد جل تقلبات الطقس الموسمية..فلا برد الثلوج ينهش أبداننا ولا حر الصيف يلفح جلدنا..ريح شرقية تلوح في الأفق، تملأ الأذن بزفزفتها ..تتمايل أوراق الأشجار لتهدهد بعضها البعض مُصدرةً حفيفَ ضحكاتها.. خرير المياه يتعالى فيُسمعُ صداه في الجبل. كأنه عزْف على أنغام آلة “الوْتار” الذي ألفته تلال الأطلس المغربية.. ثم يسقي الأرض الضامئة فتنفرج أسارير النبات الكئيبة.
،مضت العطلة إلا الربع أو أقل بأيام..تُوجتُ مَتمَّ المرحلة الابتدائية بتاج التفوق و الامتياز فكنت ملكة على عرش فصلي، أنساني ذلك تعب الدراسة والسهر مواكبةً لدروسي في فحمة الليل، و بُعد المدرسة عن منزلنا بعد القطب الشمالي عنِ الجنوبي، إذ تتمركز على قمة من قمم الأطلسِ المغربية الشاهقة كأنها تمثال الحرية..نعم مدرستي هي طريقي المعبدة نحو حرية الفكر، حريةالرأي، وحرية الأحلام.
خلال سنوات المدرسة الإبتدائية نَقَعَ زمهرير فصل الشتاء بدني النحيل و حرقت شمس أيار وجنتي الورديتين كزهرة الكاميليا، لكنني حِكتُ من حلمي الطفولي لباسا أتقي به قصاوة البرد و الحر معا..جميل أن ترى حلما في المنام، لكن ما أجمل أن تعيش أحلام الواقع وأنت تستمتعُ في سبيلِ تحقيقها على أرضٍ لا تحفلُ بالورودِ فحسب بل بالصخور أيضا، قد تُوقعكَ، فتستندُ عليها لتُعاودَ الوقوف من جديد قبل أن يندمل الجرح بيْدَ أنكَ ٱستقويتَ أكثر من ذي قبل..يحدث أن تسودّ الحياة من حولنا و تملؤُها سلبية الأفكار لكن وجب علينا تَبنّي قانون جذب الأمور الإيجابية كجذب النواة للالكترونات.
أراني بعد سنوات في مصحتي أعالج عليلا أنهكه المرض ليكتفي بابتسامة خافتة بطعم التفاؤل، فيلتمس فيَّ الأمل الأخير بعد الله سبحانه و تعالى وأجدني أُطمئنه. و تلك الطفلة النحيفة ذات الظفيرتين البنيتين و العيون السوداء الذابلة كأنها بلغت من العمر عتيا، تنشد نشيد الأمل، حيث لا تدري ما ألمّ بها من مرض.. فأعيد الى عينيها اللمعان و الى قلبها السرور.
انتهت لعبتنا قبيل أذان الظهر، على غير المعتاد، فاليوم ينتظرنا عرس صديقتنا خديجة..ودعت المدرسة بعد المرحلة الإبتدائية و فتحت الباب على مصرعيه للزواج، مُرحبةً بفارس مُقبل عليها.. ينقذها من لسعات كلام الاهل و الاقارب الموجعة.. لا فتاة في قبيلتنا تكمل الدراسة، حيث تعتبر لدى الكبار سردابا غامضا و مظلما يتربص بغياهيبه ذوو النوايا السيئة يدنسون أفكار الأنثى بأفكارهم التحررية التي لا تليق ومجتمعهم، فتتمرد كلماتها لتخلق لغة خاصة بها..تجد بين الحروف وجدانها و ماهيتها المسلوبة.. لتقف شامخة في وجه من نصبوا أنفسهم حكاما على مجتمعنا الموبوء.
لكن الحمد لله والدي لن يفعل ذلك بحياتي..إذ منذ أول أيامي في المدرسة كان يقول إن مكانك يا طفلتي في الفصل وبين الكتب، فأنت النجم و الكتب سماؤك فوعدني أن مصيري لن يكون أبدا كقريناتي و ينتهي حلمي بالاستيقاظ مفزوعة من كابوس الزواج.
لا أدري أيجب أن أهنئ صديقتي خديجة بمناسبة زواجها أم أتحسر لما ستؤول إليه حياتها بعد اليوم.. أهو زواج أم اغتصاب مع سبق الإصرار؟
ضيوف ينهالون على الخيمة و الفرحة تعلو محياهم.. فرقة “أحيدوس” الأمازيغية تبهر الحضور برقصتها كأنهم يحتفلون بالتخلص من عبءٍ أثقل كاهلهم و عارٍ كان وشيكاً..جل النسوة زينن أيديهن بالحناء تعبيرا على مشاركة العروس فرحتها المزيفة…تزين البسمة ثغرَ خديجة اليوم و لمحة حزن في عينيها لا تخفيه الزينة والحلي كما لا يخفي المطر ما يحدثه الرعد من ضرر.تعتقد أنها تلعب لعبة العروس، و بانتهاء الطقوس و مراسيم الزفاف ستعود إلى والديها بعد يوم أو أيام..لا تدري أن مصيرها قد حسم و حياتها تعلقت بشابٍ، بل و وسرق روحها و أقبر ذكرياتها و طفولتها..أقام على ذلك عزاء يليق و حجم خيبتها.
العريس أخذ موضعه بقرب عروسه بجلبابه الأبيض و رزته الخضراء يبدو أطول منها بكثير لا بد انه في ربيعه العشرين .. تملأ ابتسامة ماكرة شفتيه، يبرز فرحته بفوزه بفتاة صغيرة بل ويتباهى باغتصاب طفولة بريئة، كان جل أحلامها إكمال دراستها.
عدت الى منزلنا و عقلي يجترُّ أحداث حفل الزفاف، أو الأصح عزاء. انفجرت من مقلتي الدموع، بيدين ترتجفان مسحتها..الرعب تسرب الى قلبي وأخذ مجرى الدم في الشريان
..ماذا لو كنت انا العروس مكان خديجة!؟
دلفت منزلنا بعد حصة لعب رفقة صديقتي لأجد ضيوفا لم أعرف منهم إلا صديق والدي الذي يزورنا بين الفينة و الأخرى.. أقبلتْ أختي الصغرى أمينة تهنئني:
-مبارك يا أختاه و اخيرا سألبس قفطاني الازرق الذي خاطته خالتي منذ سنة..
-كيف ذلك يا أمينة ماذا تقصدين؟
-ضيوف أبي يطلبون يدكِ للزواج.
-ماذا؟؟ ربما بعد أن أنهى دراستي لا شك في ذلك.
اعتدت أن أرى عرائس في مثل سني تحتفين بسرقة طفولتهن بل وترقصن فرحا لأنهنّ ستُكَممنَ أفواها ستتكاثر مع كل عام يزيد في عمرها لتنعتها ب “البايرة”،من العيب في قبيلتنا الجبلية أن تتجاوز الفتاة سن الثامنة عشر دون أن تتزوج، فتنمو كل يوم و أكبر أحلامها فارس مغوار ينقذها من براثين الكابوس الذي أنهك قواها و فارس اختارها من بين قريناتها.
لكن والداي غرسا فيّ حب الدراسة و أمنا بمؤهلاتي و ذكائي، و طالما كان أبي يناديني بطبيبتنا تيتريت، وكنت محط حديثه و رفاقه بل كان دوما يفخر بي.. فماذا تغير اليوم!؟
غادر الضيوف بيتنا، ورافقتهم الفرحة التي كانت تتجول في كل ركن من المنزل..غرقتْ أمي في عبراتها التي تحرق وجنتيها فيحترق قلبي معها. أيقنت أن هنالك مسرحية تحاك ضدي أيضا كما حِيكتْ ضد صديقاتي قبلا. فاضت كلمات أمي تسرد ما حدث..كيف وافق أبي على زواجي !.. أجل وعوده لي كانت مجرد كلمات مهما بلغت حرارة صدقها سيكون مآلها الانصهار كما ينصهر المعدنُ فيُشكلُ به ما يشاؤون بناءً على الطلب و اختيار الاخر.. كذلك فعل أبي لم يستطع أن يصمد أمام ثقل كلام أصدقائه فخارت قواه..يؤنبونه كما يُؤنبُ المجرمون. كيف لك أن تقطع حبل تقاليد و أعراف القبيلة؟ كيف ترسل ابنتك الصغيرة إلى المدينة من أجل التمدرس؟..ستخرج عن طوعك، الفتاة كعصفور وجبَ وضعها في القفص، إن ذاقت طعم الحرية تمردت و أصبحت وصمة عار على أبيها و القبيلة جلها.. لم يقوَ والدي على مجابهة كلام رفاقه. فأخرج سيف الزواج من مصله و قطع به عنق طفولتي.
القمر الليلة بدرا والأرجاء مضيئة، لكنها في عيني ظلماء كليلة الخسوف.. أهازيج هناك و احتفالات لم تتوقف منذ الساعات الأولى للصباح لكن أذناي فقدتا حاسة السمع بل وتسمعان نحيبا و بكاءً كأن الكون ينعى موتي..ماتت تيتريت الطفلة، نعم لقد اغتالوا براءتها و سلموا جثتها في نعش من ذهب الى جلادها.. عيناي لا تبصران غير السواد المُقبلة عليه.. ألبسوني الزي التقليدي للمنطقة، وضعوا على جبيني بعض الحلي يحاولون عبثا ستر دموعي التي ستفضح تحامل العادات و الأعراف على طفولتي..
لم أستشعر الصخب من حولي فروحي فارقت جسدي حينما أجهضوا حلمي قبل أن يكتمل.
أختي أمينة ترقص فرحا مع صديقاتها ما علمن أن موعد زفافهن قريب لا محالة.. ستنسين معنى اللعب، معنى المدرسة، ستكتشفن دروسا جديدة في مدرسة من نوع آخر..سيكون أولها طاعة الزوج، ثانيها تحمل مسؤولية أضخم من الجبال الشامخة التي تعرفها حق المعرفة. فقط لكي تنالَ وسام الرضا من الزوج و عائلته.. ربما ستكون أمّاً و هي لم تدرِ بعد معنى أنها زوجة.
لا أحد يسأل عني وعن كينونيتي اليوم، لماذا يا أبتي تسلب مني الطفولة و الأحلام؟ لماذا تُسكت الصوت الذي يجهر داخلي و يصرخ بكل قوته أريد أن أدرس؟ لا أجيد شيئا يا أبي غير ما جادت به كراساتي و ما علمه لنا معلمونا…الصوت الذي بداخلي تبخر كما تبخرت مياه تلك البحيرة في قبيلتنا .. بعد أن ارتفعت حرارة عاداتكم و أعرافكم اللئيمة.
رُميتُ في متاهة لا مخرج لها..وَأَدوني حية..فأي ذنب ٱقترفت؟!
صرت أطيع ما يمليه زوجي و ما تأمرني به حماتي بحذافيره.. أسيقظ وبزوغ خيوط الشمس الأولى، لأبدأ مسلسلا شاقا تستمر حلقاته الى أن تميل الشمس الى مغربها.. أطعم الماشية و أوردها.. أحمل الحطب على ظهري الذي تقوس من ثقل المحمول. أعد الطعام أوقذ النار للطهي و التدفئة..تيتريت ودعت طفولتها لترحب بمسؤوليات كانت تراها بعيدة بعد الشمس عن القمر.. لكن كسوف حياتها قرب إليها معاناتها.. وتجد الصبر هو السبيل الأوحد لتجاوز مرارة العيش..إذ لن يقبل والدها ان تتذمر أو تشكو.. تتجمد الكلمات في فمها كجليد قمم الأطلس..فلا قيظ الشمس ولا الغيث ستجعله ينصهر ليظهر ما خفي تحته..تكتفي بالصمت و الكتمان. استمرت المعاناة الى أن رزقت ب “تيللي” ، اخترت لها هذا الإسم لأنها ستكون حرة ما دمت حية. سأجعلها تعيش معنى الحرية المشروعة ..ستنهي حلمي الذي بدأ فأجهضوه قبل أن تكتمل معالمه.. كنت طوال الوقت أستمد من “تيللي” كل معاني الصبر.
توفي زوجي و أضحيت أرملة و أمّاً لطفلة، في عمر العشرين ربيعا، صار لزاماً علي أن أتقمص دور الأب كذلك بعد أن غادرنا زوجي إثر حادثة سير مميتة.. قررت أن أركب أمواج التحدي هذه و أجذف بعيدا عن قبيلتي التي باركت هذا القرار. في مجتمعنا ما أن تتحمل المسؤولية المادية حتى تجد الأيادي الممدودة تنسل الواحدة تلو الأخرى، فما كان لهم أن يمنعوا تنقلي إلى المدينة بحثا عن العمل.. لكن قرارا كهذا كان أملي و أمل “تيللي” لتكمل دراستها بعد أن تلتحق بالمدرسة.
ركبت الحافلة لأول مرة.. يبدو السراب هنالك على الطريق وكأن آهاتي كلها تسربت إليه.. فانفرجت أساريري.. تتبادر الى مسامعي كلمات الركاب لكن عقلي يركز على أفكاره كأنها تجذبه إليها كجاذبية كوكبنا.
كيف سأتأقلم مع حياتي الجديدة بعيدةً عن بلدتي؟
يا تيتريت ما مررت به من أحداث منحكِ من القوة ما تواجهين به نكبات الحياة.. وجود تيللي سيجعلكِ تصمدين أمام ضربات المجتمع المؤلمة..نعم سأصارع الجميع في سبيل راحة طفلتي تيللي.
وطأت قدمي أرضا جديدة فتنفست هواءً ملؤه غاز الأمل و أوكسجين الحياة.. وجدت ابن عم أبي و زوجته في انتظاري.. رحبا بنا بينهم ترحابا عهدته من عائلتنا بل من قبيلتنا..توسط لي قريبي لدى إحدى العائلات حتى أتشتغل كمساعدة في منزلهم.
بدأت حياةً جديدة، أنستني معاناة سم الحياة الذي تجرعته و أنا طفلة..لكني لم أنس حلما ظل دفينا في دواخلي.. أحياناً أسمح لنفسي باسترجاعه حتى يظل حياً.
هكذا يا تيللي بدأت رحلتي قبل أن تري النور إلى أن بلغتِ العشر سنين اليوم..قررت أن أحكي لك قصة بدأت ببراءة طفلة و انتهت بقبرها و نعي موتها. لكن كنتِ معجزتي في زمن لا يؤمن بالمعجزات..كنتِ روحي التي عادت.. فأسلمكِ مشعل أحلامي و أود أن أرى فيك الحياة التي سُلبتْ مني جبرا تحت مسمى الزواج. بل كان اغتصابا مشروعا.
سمية حراز – مدينة بني ملال
اترك تعليقا