الذاكرة التاريخية في محراب الرواية
إن الرواية كتراث انساني منذ ارهاصاتها الأولى قد استلهمت التاريخ، واحتفت بالسير، والشخصيات، والأحداث التاريخية من غزوات، وحروب، وقضايا تاريخية، بل شكل محكي التاريخ مكوناً أساسيا في مواجهة الواقع، وإعادة الوعي بالزمن، وابراز بعض جماليات هذا العالم المضطرب ، ونظراً لأهمية المكون التاريخي في إثراء العنصر الروائي عمد العديد من الكتاب باسناد الوقائع التاريخية لبناء المعمار الروائي. وقد تبين أنه من بين أهدف هذا التوظيف التاريخي هو إعادة الوعي بالذاكرة، والزمن قصد الاعتزاز أو العبرة. وبهذا التوجه الذي هو ذاته المخيال الرمزي الذي دعا إليه المفكر محمد أركون حيث يقول ” يمكننا أن نتعامل مع التاريخ مستعينين بالسرد لإنتاج رواية لا توصف بأنها تاريخية وإنما رواية تاريخ تستحضر حدثًا تاريخيًّا أو سيرة شخصية تاريخية، لتعالجها برؤية واقعية معاصرة مسفيدة من تقنيات السرد وإمكاناته التخييلية.” وهذا ما مثلته رواية (قواعد العشق الأربعون) للكاتبة التركية أليف شافاق التي جعلت البنية السردية عبارة عن أساس تم وضعه ذو رؤيتين إحداهما رؤية فلسفية ترى الوجود مبنيًّا على العناصر الأربعة (التراب الماء النار الهواء) مضيفة إليها عنصر العدم لتكون الرؤية الثانية التي انبنت عليها الرواية رؤية مادية تاريخية تؤكد أن الزمن لا نهائي أو هو في الأصل تزامني باعتبار أن الوجود مبني على قانون الثنائيات التي تحكم أيضا هذا الكون ،فلا مجال للثبات والجمود إلا بوجود التغيير والتطور وهذه الثنائيات التي استلهمت من مجال الطاقة وعلم الفزياء هي أساس الاستمرار ولهذا صارت الحياة صخبا وهدوءا ،حرية وقيودًا خيرا وشرا..
البناء الداخلي للرواية (عتبات الفصول)
على أساس الرؤيتين التي سبق الاشارة لهما، توزعت فصول الرواية في أجزاء خمسة تمثلها عناصر الكون الفيزيائية (الهواء/الماء/التراب/النار) مضيفة إليها عنصرا آخر هو العدم الذي هو شيء غير ملموس. وجاءت عناوين أجزاء الرواية على النحو التالي:
1 الجزء الأول: الأرض الأشياء التي تكون صلبة متشربة وساكنة. 2 الجزء الثاني: الماء الأشياء السائلة تتغير ولا يمكن التنبؤ بها.
3 الجزء الثالث: الريح الأشياء التي تتحرك تتطور وتتحدى. 4 الجزء الرابع: النار الأشياء التي تدمر وتحطم.
5 الجزء الخامس: العدم الأشياء الموجودة من خلال غيابها.
ثم ينقسم كل جزء إلى فصول تحمل أسماء السراد بالتناوب ما بين قصتين القصة الأولى تاريخية تستحضر سيرة جلال الدين الرومي الذي عاش في القرن الثالث عشر الميلادي وأما القصة الأخرى فمتخيلة محورها مخطوط هو عبارة عن مسودة لرواية عن جلال الدين تحمل اسم (الكفر الحلو). وسيكون هذا المخطوط هو الأمر الأول الذي منه تشرع الرواية في سحب التاريخ إلى منطقة الواقع بعد أن تتحدد مهمة بطلة القصة (ايلا) في تقييم هذا المخطوط وبيان مدى صلاحيته للنشر أما الأمر الثاني فهو الصداقة التي هي ثيمة مركزية مشتركة بين القصتين السيرية والتخييلية.
السرد بين الذاتي والموضوعي مكون
وزعت الكاتبة محور السرد بين سرد ذاتي وآخر موضوعي مما جعل الرواية متعددة الأصوت أو ما يسمى بالرواية البوليفونية إذ ليس فيها بطولة فردية لأن كل سارد هو بطل مثل البغي وردة الصحراء وسليمان السكران وكيميا الفتاة الطيبة وحسن المجذوم والقاتل رأس الواوي والمقاتل بيبرس والتلميذ وسلطان ولد وعلاء الدين.. وكل هؤلاء يتولون السرد بضمير المتكلم ولا يتدخل أي راو في ذلك ، لقد أتاحت إليف شافاق لهاته الشخصيات ان تتحدث عن نفسها ودواخلها، ان تعبر عن مكنوناتها و هواجسها… لقد لعب محكي التاريخ دورا أساسيا في رواية قواعد العشق الأربعون حيث أنصف شخصياتها البائسة فساهم بقلب هامشيتها إلى مركزية، فكشف لنا حياتهم الهامشية وما كان يقع عليها من قمع وجور وحيف رصدت مقدار المعاناة التي تحملوها . ولقد حاولت في قواعد العشق الأربعون الدخول إلى تفاصيل حياة المهمشين فعرضت أخطاءهم التي انحدرت بهم إلى الحضيض وكيف أن الواقع تخلى عنهم بدل من أن يقوم بإصلاحهم .. ولعلها نجحت في هذا الأمر ، حين كشفت كيف استطاع شمس التبريزي إصلاح البغي وردة الصحراء كما رسمت الطريقة التي بها عقلن الرومي نهج سلمان السكران حتى عرف هذا الأخير حقيقة قدراته وإمكانياته كما كشفت عن البواطن النفسية للذات المؤنثة مثل كيميا الفتاة التي تتلمذت التصوف على يد التبريزي فوقعت في حبه فكانت مأساتها ناتجة عن تعارض مادية الحب وروحانيته وكذلك كيرا المرأة المسيحية التي دخلت في الإسلام لتكون الزوجة الثانية للرومي والتي تقع فريسة تشظي الهوية ما بين الديانتين .
العمق الفلسفي والتأمل الصوفي
ان البعد الفلسفي الذي انبنت عليه الرواية هو الغوص في أعماق واقع القرن الثالث عشر الميلادي وذلك بطرح فكرة أن التصوف لم يكن مجرد تأمل ذاتي خارج إطار الواقع أو غوص في متاهات اللاوجود وإنما هو تحكيم العقل بالمنطق بهدف العودة بالمزيف إلى الأصل وتدعيم القلب بالعقل وهو ما عمل عليه التبريزي والرومي ومن قبلهم الفلاسفة والمتصوفة من أمثال ابن عربي والحلاج ورحلتهم ما كانت لدافع فردي أو هدف شخصي وإنما كانت لأجل الإنسانية وتقويم اعوجاجها.. لقد ساهمت هذه الرؤية الفكرية والفلسفية الى رصد مفاهيم التسامح والانفتاح والتعايش الحر والتفاعل إن الفلسفة ما عادت هي المنطق بل هي اللامنطق في التحرر والخلاص .. وهذا ما خلصت إليه الرواية من خلال القاعدة الأربعون حيث تقول “لا قيمة للحياة من دون عشق لا تسأل نفسك ما نوع العشق الذي تريده روحي أم مادي إلهي أم دنيوي غربي أم شرقي فالانقسامات لا تؤدي إلا إلى مزيد من الانقسامات ليس للعشق تسميات ولا علامات ولا تعاريف إنه كما هو نقي وبسيط العشق ماء الحياة والعشيق هو روح من النار يصير الكون مختلفًا عندما تعشق النار الماء”. الرواية/.500 . وبهذا تكون (قواعد العشق الأربعون) قد جمعت العناصر الأربعة الطبيعة في الكون، استعانت بمحكي التاريخ، واعتمدت تعددية الأصوات مع تناوب في السرد بين الذاتي والموضوعي وهذا ما سمح بالمشاركة الشخصيات باعتبارها قوى فاعلة بالعمل الروائي سواء الشخصيات التاريخية والمتخيلة ، هذه القوالب مدَّت التاريخ إلى الواقع، وجعلتهما متصلين.
الباحثة سلمى العلالي- سلا/المغرب
اترك تعليقا