آراء وأسئلة
كنت أتصفح كتابا، يعالج قضية الدين والسياسة في العالم العربي، لصاحبه الروائي والمفكر المغربي حسن أوريد، والذي يحمل عنوان “السياسة والدين في المغرب جدلية الفرقان والسلطان” استوقفتني في مقدمته عبارة “أن العلاقة بين السياسة والدين مرت عبر ثلاث مراحل، نذكرها على النحو الآتي:
المرحلة الأولى، تدعو هذه المرحلة إلى الفصل بين السياسة والدين، ويأتي هذا الفصل تحت شعار “الدين لله والوطن للجميع” وقد برزت هذه المرحلة في دول المشرق، كدول تعيش ثنائية الدين، الدين الإسلامي والدين المسيحي بينما جاءت المرحلة الثانية بعد هزيمة مصر سنة 1967، تحت شعار “الإسلام هو الحل” وقد قسمت الدولة إبان هذه المرحلة إلى ثلاثة أطياف، اشتغل الأول على المجتمع أي الأسلمة من تحت، واهتم الثاني بالاشتغال على قلب الدولة أي الأسلمة من فوق، وثالث يبقى ديموقراطيا. والثالثة هي مرحلة جديدة يعيشها العالم الآن، وهي الأخرى تتقاطع مع شعار “الإسلام هو الحل” بل إنها تدعو إلى الفصل بين ما هو سياسي عما هو ديني.
يستفاد من هذه المراحل، أن كلا من المرحلتين الأولى والثالثة، ناشدتا وحثتا على إحداث القطيعة بين الأمور الدينية والأمور السياسية، وقد أعلنتا عن ذلك دون تخف ولا تستر، بل بكل جرأة وشجاعة، في حين أن المرحلة الثانية والوسطى، عرفت تذبذبا على مستوى تحديد مصير العلاقة بين الدين والسياسة، حيث لم يتم الاستقرار على أمر واحد، بل بقي الأخذ والرد بشأن العلاقة بينهما، إلى حين بروز المرحلة الثالثة، والتي تم فيها الإقرار بالفصل بينهما (بين الدين والسياسة).
جاء في المرحلة الأولى أن الدين لله والوطن للجميع، طبعا، المقصود بالدين هنا هو الدين الإسلامي، ذلك لأننا أشرنا إلى وجود قضية العلاقة بين السياسة والدين في العالم العربي، وتحديدا في دول المشرق، كالمغرب ومصر … لكن ماذا عن الوطن للجميع؟ هل فعلا الوطن هو للجميع؟ وهل هناك فعلا ما يثبت أن الوطن هو للجميع في عصرنا الراهن؟ وما السبب في نفور بعض المواطنين والمواطنات من أوطانهم؟ …
تطرح أسئلة كثيرة بشأن هذه المسألة، لكن يمكننا القول ــ من وجهة نظرناــ إن الوطن فعلا هو للجميع، ذلك لأننا نحن كذلك للوطن، أي أننا نكاد نجزم أنْ لا وطن من دون أفراد ولا أفراد من دون وطن، يعني أننا له وأنه لنا، لكن هل فعلا الوطن لنا كما ينبغي أن يكون لنا في الأصل؟ هل يحقق الوطن الأمن والأمان في نفوس المواطنين؟ هل تتحقق قيم المواطنة في الأوطان؟ بعبارة أوضح، هل ما يحث عليه الدين عامة والدين الإسلامي خاصة يوجد في الوطن؟ تبقى هذه الأسئلة مفتوحة، وقابلة لإجابات متعددة ولتأويلات عديدة، شريطة أن يكون التأويل رهينا بالسياق الذي طرحنا فيه هذه الأسئلة، حتى لا يتم اشتقاق دلالة السؤال وتجريدها من معناها الأصل.
لا بأس أن نجتهد في تقديم بعض التفسيرات حول ما تم طرحه من أسئلة، وسنحاول أن نجيب من منظور ديني/سياسي، في السياق نفسه، نجد الكاتب محمد آل عوضه يطرح قضية الدين والوطن في كتابه “مدينة الأقوياء” حتى وإن لم يتناول هذه العلاقة من وجهي العملة، فإنه طرحها بطريقة تتطلب قارئا باحثا، ليكتشف مضامين وخبايا هذه العلاقة، فقد أورد قولة في الصفحات الأولى من كتابه، تقول: “إن الذي لا يحب وطنه لديه مشكلة” متحدثا عن الدور الذي يلعبه الوطن في تحقيق الأمن والسلام في نفوس مواطنيه، إذا رمنا التبسيط وقلنا إن الأمن والسلام هما من بين الأمور التي يدعو إليها الدين، ـ وأخص بالذكر الدين الإسلامي ـ والوطن يحققهما للمواطنين، إلى جانب أمور أخرى، فبإمكاننا أن نصرح بأن الدين والوطن كل منهما مرتبط بالآخر، ولكن ماذا عن القول بأن الذي لا يحب وطنه لديه مشكلة، أيمكن أن نعكسها ونقول: إن الوطن الذي لا يحب مواطنيه فيه مشكلات ومشاكل، خصوصا وأن هناك بعض الأوطان يشعر فيها المواطن أنه غير مرغوب فيه، إذ لا يعامَل فيها بطريقة تجعله يحس أنه في وطن يحبه، وهنا نعيد طرح السؤال: هل بالفعل الوطن للجميع؟ في هذه الحالة، يمكن القول بأن الوطن ليس للجميع، حيث إننا في أحيان كثيرة، لا نشعر بحب الوطن لنا، ونشعر كأنْ لا قيمة لنا… وفي الجهة المقابلة، إذا تصالحنا مع وطننا، وتصالح معنا، نحس براحة وطمأنينة كبيرتين، وهنا نشير إلى أن التسامح ينص عليه الدين، فإن هو كان بين الوطن والمواطن، فإننا نسجل أن السياسة والدين مترابطان، متكاملان.
إذا عدنا إلى المرحلة الثالثة التي تقر بالتقاطع بين السياسة والدين، فإننا نلحظ أن الوطن المغربي خصوصا، يزكي القطيعة بين الاثنين نعم، لكن يبقى محافظا على بعض الحقوق التي جاء بها الدين، كالإرث والطلاق… في حين لا يعدل في بعض الحقوق كحق الشغل والوظيفة، مما يدل على أن الوطن يتقاطع مع الدين في مواقف عدة، ويتكامل معه في أخرى.
فنسجل هنا أن العلاقة بين السياسة والدين لا تستقر على حالة واحدة، فقد يتوافقان معا في شيء أو أشياء محددة، لكنهما لا يتفقان كليا، حول أمور العيش وأمور الحياة التي يعيشها المواطنون، فكثيرا ما نلحظ مواطنا، يطالب بحق يكفله له الدين، لكن السياسة لا توافق على ذلك ولو بصيغة مبدئية، وبهذا؛ فالسياسة والدين يشهدان جدلا وجدالا دائمين مستمرين، بحيث لا تجدهما يتفقان في كل الجوانب، “أعطوا الأجير أجره قبل أن يجف عرقه” دونها أستاذ فرض عليه التعاقد، معلقا عليها قال: “جف عرقنا وأحلامنا وطموحاتنا” هذا التعليق كفيل بأن يوضح مدى تضاد ما هو سياسي مع ما هو ديني، فالدين يوصي بمنح الأجرة للأجير فور انتهائه من العمل الذي يزاوله، لا ننكر أن بعض المنظمات السياسية، تضمن هذا الحق للعمال والمأجورين، وفي المقابل؛ هناك من يتمادى ويتماطل في إعطاء الأجرة لمن يستحقها، وبالتالي هنا السياسة (في بعضها)، تتنافر مع ما جاء في الدين الإسلامي.
نختتم هذه الورقة؛ بتقديم وجهة نظرنا حول ماهية العلاقة بين السياسة والدين، وحول طبيعة العلاقة بينهما، ونشير إلى أن كلا من السياسة والدين، تربط بينهما علاقة تكامل في حقوق معينة، وعلاقة تنافر في حقوق أخرى، ما يعني أن العلاقة بينهما؛ قائمة على عدم الاستقرار على حال واحدة، وأنها تتأرجح بين التكامل والتدعيم، وبين التنافر والقطيعة.
سفيان العلالي – مدينة الرباط
اترك تعليقا