قضمت آخر قطعة من الشكولاطة بملل، لم أبذل جهدا في استشعار حلاوتها والاستمتاع بها؛ بل كنت كمن يقضم بطاطس نيئة أو فجلا أكل عليه الدهر وشرب داخل المبرد، حتى صارت التجاعيد تكسو قشرته فصار كوجه المتسولة العجوز التي أمر عليها صباح كل يوم.
بعدما فرغت من أكل بطاطسي النيئة، اتجهت لتنظيف أسناني والاستعداد للنوم.
ثم تساءلت: كيف يستطيع الآخرون الاحتفاظ بنوعيات محددة من الأكل لأيام، يأكلون القليل فقط ثم يعيدون البقية داخل الكيس إلى اليوم الموالي؟ قدرتهم على التحكم بأفواههم تثير استغرابي! لأني شخص يتناول ما تتلقفه يداه في نفس اللحظة، لا أملك ثقافة الإدخار أو ربما لم يجد بعد علي الزمان بهذه القيمة.
خضت نقاشا مع صديقتي حول إدمان الهاتف خلال حصة دراسية لا تمث لموضوعنا بصلة، والحلول الممكنة للابتعاد قدر الإمكان عن هذا الكائن التكنولوجي. فشاركتني بعض الوسائل التي تستعملها للتحكم في مدة الاستخدام.
ذكرت أنها تستخدم تطبيقا خاصا يمكنك من تحديد المدة الزمنية التي تريد قضاءها في تصفح موقع معين، وخلال انقضاء المدة فإنه سيغلق تلقائيا إلى اليوم الموالي.
أعجبت جدا بالفكرة، ذكرتني بخاصية مشابهة للتي أملكها على الهاتف، إلى أني تذكرت أمرا فجأة… فسألتها بنوع من الريبة:
-لكن ألا يمكنك كذلك إعادة ضبط المدة بعد انقضائها لجعلها أطول بسهولة؟ أعني تقومين بذلك فقط من خلال الإعدادات وبخطوات بسيطة.
أجابتني بالموافقة وكأنها لم تفطن إلى ما وراء سؤالي.
صمتت برهة وأنا أتأمل سذاجة هذا الحل، أعدت السؤال لأتأكد من أنه فعلا يفيدها في الابتعاد عن الهاتف وانها تلتزم بالمدة التي تقوم بتحديدها، فأجابت باستغراب من سؤالي:
-نعم، الأمر بسيط كلما يغلق التطبيق أقوم بوضع الهاتف ولا أفتحه إلا في اليوم الموالي.
شكرتها على الحل الرائع ثم أدرت وجهي مدعية التركيز مع الدرس وفي داخلي تحلق الأسئلة كالغربان، هل الأمر سحري حقا؟ أم أني شخص مهمل مبتذل غير مسؤول؟ إن كان للمدمن كل هذا الإصرار والإلتزام فإنه لن يكون مدمنا منذ البداية أساسا!
أتذكر أني حين استعملت هذه الخاصية انتظرت إلى حين انقضاء المدة ثم اتجهت مجددا للإعدادات وأضفت ساعة أخرى، واستمررت في هذا الفعل إلى أن أزعجني ذلك ثم ألغيتها واستمررت في عملي، بما أني أستطيع تغيير ذلك متى شئت فإنه حل غير فعال.
الأمر أشبه بفكرة المكافأة التي ذكرتها الأستاذة قبل قليل، أن تحاول القيام بعمل معين وتعد نفسك بهدية أو مكافأة إن أنهيته ما سيجعلك متحمسا للعمل من أجل الحصول على مكافأة من نفسك.
أنا متأكدة من حصولي على المكافأة أولا ثم بعدها سيتعلق الأمر بضميري العملي والدراسي في القيام بالعمل من عدمه. لن أستطيع التركيز في العمل وأنا أدرك حصولي على مكافأة في النهاية من نفسي.
الأمر لا يتعلق فقط بالأكل، بل على سبيل المثال في أسبوعي الأول بهذه المدينة المزعجة، ركبت الحافلة صباحا ثم جلست هادئة أتأمل الأوساخ المنتشرة بين المقاعد، والتشققات التي تعلوها، ألاحظ وجوه الراكبين والسائرين خارج الحافلة، كأني في نزهة سياحية بحي شعبي بمدينة باريس لا كطالب يجب عليه الوصول في الموعد المحدد لقاعة الدرس.
ولأن المكان مريح والحافلة دافئة والجو جميل يبعث على السعادة فإني لم أكلف نفسي عناء النظر إلى الجهة المقابلة لألاحظ وصولي وأحاول النزول.
بل احتفظت بكرسي الجميل الأزرق المريح بجانب عجوز لا أدري سبب استيقاظها في هذا الوقت المبكر، إلى أن وصلت الحافلة إلى مكان لم تسبق لي زيارته.
بنايات ضخمة مختلفة عن التي أراها عادة، وتقاطع طرق لم أعتد وجوده في طريقي.
ثم تذكرت أخيرا أن علي النزول في محطة ما للوصول للفصل، فتحت الهاتف لأجد أمامي نصف ساعة قبل انطلاق الدرس، توقفت بعد توقف الحافلة في مكان مجهول، ثم بدأت رحلة البحث عن سيارة أجرة. لحسن حظي لم يطل الأمر وسرعان ما وجدتني أركب مجددا.
كان السائق يتحدث عن موضوع ما في الوقت الذي كانت فيه عيناي لا تفارقان العداد الذي سيستنزف ما أملك من دراهم، سرعة صاروخية في العد كأنه يستهلك الأرݣان لا الوقود، رغم أن الأخير سيلحق بالأول قريبا…
ثم أخيرا وصلت إلى المكان المحدد، عشرون درهما سيدتي.. هكذا طلب مني المبلغ بأدب مستفز.
دفعت المبلغ وشكرته على مضض، مسافة سأقطعها في مدة أقل من هذه وأنا أمتطي حمارا، لا بل حمار أعرج يملك عينا واحدة ونصف أذن.
لا بأس كله يهون في سبيل طلب العلم، بدأت أعد وأتذكر الأمثال التي قيلت في طلب العلم ومدح الطلاب إلى أن انتشيت وصرت كطاووس ينفخ ريشه بكبرياء، ثم صعدت الخمسين درجة أو أكثر للوصول إلى القاعة التي بناها المهندس المحترم بلب السماء، لا أكاد أغادر قاعة الدرس حتى يتناثر العلم بهذه الدرجات من شدة العياء خلال الهبوط.
أخيرا وصلت، احتفظت بأنفاسي المتبقية لأستعيدها بعد جلوسي بالمقعد، لكني لم أكد أفعل ذلك حتى وجدتني وحيدة داخل الفصل..
خرجت لأتاكد من رقم القاعة لأجده صحيحا، ما الأمر إذن؟
اليوم ليس عطلة وليس الوقت مبكرا.
الفصول عموما متشابهة ولها نفس الهندسة وتحتوي على نفس المعدات، لا أستطيع التمييز بينها بعد ثم إن رقم القاعة صحيح، لكن مهلا أي جناح هذا ؟
خرجت بسرعة لأجد نفسي في الجناح باء وأمامي أقل من خمس دقائق للوصول إلى الجناح الآخر وصعود الدرج مجددا .
حتى وإن كنت أملك عجلات بدلا عن قدمي العصفور خاصتي فلن أتمكن من الوصول في الوقت المحدد.
تحسرت على أيام الثانوية حيث كان كل شيء واضحا يسيرا لا يكلف جهدا ولا تركيزا.
نزلت الدرج مطأطأة الرأس لأغير وجهتي وأصعد مجددا كحمار طموح إلى قاعة الدرس متمنية أن لا يعاتبني الأستاذ على التأخر، أو يملي علي محاضرة لحثي على الإستيقاظ باكرا للوصول في الموعد، لأنه لا يعلم أني وتلك العجوز المتسولة أول من يستيقظان في ذلك الحي وبعض الكلاب والقطط المتشردة…
سعاد أمرير – مدينة أيت إعزة تارودانت
اترك تعليقا