لم أكن متفاخرة به، لكن كان الكل يعجب به… كنت أتمنى قصِّه، لكن أمي تعشق طوله؛ كنت أنفر منه عندما أقوم بتمشيطه بسبب طوله… والآن هاهو كما أردته، ربما لا.. بل أكثر؛ أصبح كحلاق حارتنا.
بينما كنت أفضل السهر والمرح، غافلة عن وقت النوم للراحة، ووقت العبادة الإستراحة… الآن أرجو فقط النوم لدقائق قليلة، بدون تعب. نوم مريح واستيقاظ بنفسية نشيطة. كنت أمقت شيء يسمونه”حقن”، لكن الآن صرت أتفنن في الألوان التي توضع داخلها. هل تعلمون كنت أكره أقراص الحلوى الدائرية، لأنها تذكرني بأقراص الدواء التي كانت تأخذها أمي عند مرضها. لأنني كنت خائفة من فقدانها.
لكن..!!، الحمد لله.
الحمد لله، فأمي تعافت وأصبحت بصحة جيدة. الأمر يكون مختلف عندما يتعلق بأم أحد منا، عندما تتعب أو تعاني من مرض، الشعور بالخوف يسري في الجسد وإحساس كالسم ينساب في الشريان، أنه بدون ترياق وهذا أقل شيء بالإمكان أن يشعر به المرء عندما يتعلق الأمر بوالدته.
نسيت أن أخبركم؛ هل تعلمون كيف هو حلاق حارتنا؟!…إنه أصلع.. نعم أصلع ليس لديه شَعر بتاتا يغطي فروة رأسه، أبداً
…
والآن أظن أنكم تعلمون على ماذا أتحدث؟!..
صحيح على مرض السرطان، الذي أنهك جسدي وحرمني من طفولتي، وأصبح يقرر يومياتي، أصبحت أينما حللت وارتحلت يرافقني، والأدوية الكيماوية تلازمني، حتى غيَّرتُ مقر سكني وقبعت فوق سريري داخل غرفة لا يسمع لها سوى أصوات الأقدام المتسارعة، على الأرجح… أقدام الأطباء نحو غرفة الإنعاش أو إلى الإسعافات؛ لإستقبال حالات الطوارئ كالعادة. زد على ذلك أصوات المرضى منهم من يأن ومنهم من يتألم في صمت لكن نسيم المكان يوصل إحساسه بالألم، ومنهم من لم يستطع كبح صوته وعلو صراخه وصل إلى حيث لايجب أن يصل بالرغم من تهديئات الممرضات له.
أمي تأتي لزيارتي كل يوم. لا عفواً، بل أصبح المستشفى هو بيتها الأول أيضاً؛ لأنها تذهب إلى منزلنا فقط عندما تريد إحضار شيء ما. أبتسم كلما أراها، لكنني أتقطع إرباً إربا لمجيئها ورؤية هذا الكم الهائل من الحزن الذي أصبح يكتسي ملامحها…
على العموم الحمد لله… لكنني سعيدة من ناحية أني سأغادر قبلها، ومن ناحية أخرى أني لا أتحمل بكاء عينيها.
اليوم، يوم مختلف لدي شعور غريب؛ أشعر بشيء غريب. ربما موعد اللقاء مع الرب قريب. دموعي تهطل كشلالات الأنهار، عندما أتذكر صوتي الذي رُفعَ عليك في لحظة الغضب، اللعنة علي…وأنا لا أعلم بأن عدوي داخلي ينهش وينتظر لحظة الإنتصار، لكن ماذنبي يا أمهاه، ما ذنبي؟! إذا أُصِبتُ بهذا الخبث، ما ذنبي إذا لم أكن بإمتلاك قوة جيدة للدفاع عن نفسي. لذا أنا ضعيفة داخلياً رغم إبتسامتي هذه، لأنه هزمني يا أمي.. هزمني، لكن لست جبانة فالجبان لا يمكنه تحمل هذا الصراع، الجبان لا يمكنه خوض معركة وهو يعلم أنه على الأرجح سيهزم في آخرها….
والآن يا أماه، ها أنا أطلب منك السماح… سامحيني، ولو أعلم أني لم أفعل شيء وربما فعلت، لكني أعشقك يا أمي وأرجو منك السماح؛ سامحيني. بالمناسبة لا تحزني علي. حتى تقعين مرضاً. لكن أيضاً لا تقومي بنسياني، احتفظي بأشيائي وصدقي ثيابي.. لا تنسَين ما أحب وما أعشق وما أمقت وما أكره. أريد منك طلباً، أخبري الكل بأن يشكروا الله ويحمدوه نهاراً وليلاَ ويسبحونه كل دقيقة على نعمه الواسعة، وأن لا يقنطوا من رحمته الشاسعة. أريدك أن تزرعي وروداً على قبري فما عشقت زرعك للورود بكلتا يديك، واعتني بصحتك جيداً. فأنت حياتي يا أمي، هل تعلمين أنا جد سعيدة، لأنني أنا من سيرحل قبلك، لكن لا بأس فنحن حتماً سنلتقي؛ سنجتمع مجدداً. في مكان لا نهاية له… هناك سنظل معاً. دون فراق، وعلى الأرجح فهذه هي رسالة الفراق. قد قمت بطلب الممرضة التي تأتي إلي كل صباح لتأخذني إلى غرفة أخرى أتلقى فيها علاجي وأعود أدراجي بعدها إلى غرفة نومي؛ قمت بطلبها لتأتي لي بورقة وقلم، لأخط حروفي هذه وأودعك. لن أنسى أن أقول لك أن تخبري أبي الغالي وعائلتي أننا أكيد سنلتقي. أما عن ألواني وكتبي فهي ذكرى مشرقة مني لكم.
ونفس الممرضة ستقدم لك رسالتي يا غالية.
وداعاً_______حبيبتك إشراق.
زينب جليد – مدينة تارودانت
أتمنى لإبنة أختي الغالية والعزيزة التوفيق في مسارها الدراسي وشكرا للمشرفين على هذه البوابة الإلكترونية