صفير الرياح و هي تمر بين الأغصان العارية كعويل امرأة تندب وحيدها ، ومشهد الشمس في صراع مع الغيوم يثير في النفس التجهم والوحشة ، رحل الصيف بلياليه الدافئة الساحرة ، ودق الخريف طبول الزحف متوعدا بليال طويلة باردة.
هبت نفحة قارسة أسقطت ما تبقى من أوراقها الذابلة ، فرمقتها بنظرات تحجبها الدموع . أين أيام الريعان و الصبا ، أيام كان فيها المعجبون يحجون لرؤيتها في طوابير ،
ويتقاتلون من أجل الظفر ببسمة أو نظرة رضى . شتان بين اليوم و الأمس القريب ، اختفت طوابير المعجبين، ومعها الحفلات التي كانت تقام على شرفها ، ولم يتبق من ذلك المجد الغابر سوى بقايا ذكريات تؤنس وحدتها .
وبينما هي تسامر الذكريات ، سمعت صوت زائر يقترب منها ، فهمست بصوت واهن :
– من القادم ؟
أجاب كأنه يخاطب نفسه، ومن سيتذكرك الآن غير عاشق عظم فيك الروح لا الجسد . فعرفت من كلامه أنه ذلك العنكبوت الذميم ، جاء كعادته يزورها بعد أن تخلى عنها الجميع وخذلوها كما خذلتها نضارتها و لونها الفاتح البراق.
– هذا أنت !؟ ، مازلت مخلصا كما عهدتك
طأطأ رأسه خجلا :
– وأنت ما زلت فاتنة كما عهدتك
ضحكت ضكحة امتزجت فيها الحسرة بالأسى :
– جبر الله بخاطرك كما جبرت بخاطري ، سحري الذي كان يسلب الألباب جف كما تجف الحناء في يد العروس .
وما كادت تكمل كلامها حتى تأهوت بحرارة فنزل تأوهها على فؤاده كخنجر حاد ، سألها قائلا :
– ما خطبك يا أميرة ؟
– ازداد الزمهرير شدة ، وجسدي الذي تكالبت عليه الأوجاع لم يعد ليتحمل
مسح بيديه الخشنتين عبرات سالت على خديها قائلا :
– لا عليك ، سأنسج لك من خيوطي معطفا يقيك البرد
وفي الحال بدأ يحيك المعطف ، ومع كل خيط يضعه على جسمها كان يضع معه حبات من قلبه غير عابىء بالأشواك التي أدمته. وما كاد ينتهي من عمله حتى دب الدفء في عروقها وارتسمت البسمة على محياها . بسمة جعلته يشعر بأنه نال من المكانة ما ناله سلفه حين كانت خيوطه سببا في إنقاذ خير البرية..
بصوت عادت إليه الحيوية من جديد خاطبته قائلة :
– لا شك أنك متشوق لسماع قصصي مع طوابير المعجبين
هز رأسه موافقا مع أن حكاياها كانت تجعله يتفتت من الغيرة، لكن ماذا عساه يفعل و هو يعلم علم اليقين أن لا شيء أحب إلى قلبها من حديثها عن ماضيها، ولا شيء أحب إلى قلبه من أن يرى طيف السعادة يحوم في مقلتيها. وهكذا توالت الليالي، ينسج لها من خيوطه معطفا كلما اهترأت خيوط المعطف القديم، ويسمع حكاياها على مضض حتى يداعبها النوم فتغفو عيونها و تظل عيونه ساهرة تتأمل تقاسيم وجهها، وبين الفينة و الأخرى يلامس بأصابعه وجنتها بحنو لو تفرق ما ترك في الوجود قلبا محروما.
ذات صباح فركت عينيها من أثر النوم ، فوقع بصرها على برعم صغير نبت في أحد فروعها، فصرخت بجنون منادية على العنكبوت المسكين الذي استفاق مذعورا من هول الصدمة
– ما بك؟
– انظر ! ، أ حقا ما أرى ؟ ، أم أنني ما زلت غارقة في أحلامي الوردية
أجابها مهنئا و في الوقت نفسه معزيا حاله:
– بلى ما ترينه حقيقة ، مبارك عليك .
نطق هذه الكلمات و هو يعرف أن مهمته أوشكت على الانتهاء، فظهور أول برعم يعني عودة الصبا و الريعان إلى معشوقته ، كما يعني توافد المعجبين من جديد لتقام الليالي الملاح ، ليال طبعا هو ليس بالضيف المرغوب فيها، فبشاعته تعد نشازا داخل سيمفونية يعزف ألحانها ضيوف ألوانهم تسر الناظرين . ومع كل صباح كان ينبت برعم حتى اكتمل جمالها ، ونزعت باشمئزاز آخر خيط من معطف العنكبوت الذي لم تعد في حاجة إليه اليوم ، ليفوح أريجها مغريا جحافلا من العشاق .
لملم العنكبوت خيوط المعطف التي حزن عليها حزنا شديدا حين رأى أقدام العشاق تدوسها ، فهي بالنسبة له خيوط وفاءوتضحية، وليس فقط مجرد خيوط، وألقى نظرة وداع على معشوقته التي كانت مزهوة بكلمات الإطراء ، وما إن التقت نظراتهما حتى أشاحت بوجهها عنه، واستكثرت عليه كلمة شكر أو همسة وداع.
هكذا هي الحياة كانت و ما زالت ،أناس نصيبهم معانقة الأشواك ، وأناس نصيبهم امتصاص الرحيق.
زوهير السور – الفقيه بن صالح
اترك تعليقا