قبل الشروع في الحديث عن هابرماس وفلسفته والاشارة الى المدرسة التي ينتمي اليها وموضوعاتها الرئيسية, لابد من أن نلمح الى مسألة اساسية وهي أنه لا أحد يشك في ضرورة النقد المتجدد للواقع في نظم المعرفة و القيم و الاجتماع وانماط الفكروالعقل والسلوك,بمعنى مراجعة الافكار والوقائع والافعال ومحاولة الكشف عن تعارضها مع المعايير التي تنطلق منها والتي اصابها العجز والكساد بغية العمل على تجاوزها,هذا السلب الموجه للمعايير السائدة والاوضاع القائمة يكمن في النقد الذاتي الذي يمارسه الفرد او المجتمع على مختلف الأوضاع والقيم والمؤسسات التي تبدو للعقل غير النقدي مطلقة وثابتة ومستمرة.
وبالتالي فالنقد الصحيح هو الذي يضع الضد في مواجهة القائم ويؤلف بينهما في جديد اشمل واكثر وعيا وخصوبة, مثل هذا السالب يشكل عنصر اساسي في تكوين المنهج الجدلي الذي اثبت منذ هيجل وحتى ماركس واصحاب مدرسة فرانكفورت النقدية انه ذو طابع نقدي وثوري يؤدي الي التغيير الايجابي عن طريق نفيه لكل ماهو فاسد في الواقع وتطوير مايقبل منه التطوير الى جديد ملائم يجيب عن اشكالات المرحلة.
بناء على هذا الاساس يمكن القول بأن المدرسة اتخذت من النقد الارضية المتينة التي بنيت عليها اسسها الفكري, لكن رغم ان النقد شكل لها ارضية متينة الا انها ظهرت اختلافات واضحة بين اعلامها الامر الذي جعلها تعرف اجيالا ثلاث كل جيل الا و تفرد بميزة جعلته يسرق اليه الانظار .
وتعد مدرسة فرانكفورت ايضا(التي ينتمي اليها فيلسوفنا هابرماس) كما كتب بوتومور هي ذلك الاتجاه الذي تحقق في فرانكفورت عند انشائه بقرار من وزارة التربية الالمانية بتاريخ 03 فبراير 1923 بالاتفاق مع معهد الابحاث الاجتماعية ,وهي تطلق على هذا التيار الذي يدعو ويؤكد على الحداثة الفلسفية ويمثل اهم تياراتها مقابل الاتجاهات التب استنفدت مهامها. ويمكن تقسيم مراحل تطورها حسب المختصون في النظرية النقدية للمدرسة الى ثلاث مراحل اساسية,المرحلة الاولى هي التي تأسست فيها المدرسة في بداية العشرينات من القن السابق عندما تجمع ثلة من الباحثين وعلى رأسهم ماكس هوركهايمر وثيودور ادورنو ثم هربرت ماركيوز الممثلون بما يسمى الجيل الاول للمدرسة,والمرحلة الثانية تضمنت كل من يورجين هابرماس ثم كارل اتو ابل ثم البرشت فيلمر,اما المرحلة الثالثة فيمثلها اليوم اكسيل هونيث بشكل اساسي وهو رائد الجيل الثالث ومدير معهد الدراسات الاجتماعية بفرانكفورت.
لقد قامت النظرية النقدية منذ نشأتها في الثلاثينيات من القرن الماضي بنقد جذري لمشروع الانوار بما هو رمز الحداثة الغربية وهو مايبدو جليا في كتاب جدل التنوير(كتاب مشترك لهوركهايمر و ادورنو) حيث انطلاقا من مشروع عصر التنويربما هو لحظة تأسيسية للحداثة الغربية,ومن اهم الاسس التي قام عليها هذا المشروع العقل والحرية والعدالة واحترام كرامة الانسان وحقوقه قصد التخلص من الظلم الذي ظل يعاني منه الانسان ومن مختلف انماط السيطرة التي عرفها في ظل المؤسسات الدينية و السياسية التي كانت سائدة في اوروبا في تلك الفترة.الا انه في خضم التطور التاريخي اتضح ان المشروع التنويري اضحى ابعد عن القيم الانسانسة والكونية التي قام عليها ,وتبين ان هذا المشروع لم يعد قادرا على تحرير الانسان من كافة اشكال السيطرة التي تهدد وجوده خاصة بعد صعود النظم السياسية الشمولية كالنازية والفاشية والستالينية وجو الحروب التي شهدتها اوروبا في تلك الحظة التاريخية, حيث اختفت الحرية وغاب العقل وانقلب التقدم بمفهومه الانساني الى انحطاط مقلق للغاية.وهنا يطرح بومنير سؤلا مفاده:
كيف نفسر تدمير العقل التنويري لنفسه بحيث اصبحت الانسانية تخوض في حالة جديدة من البربرية بدل ان تصل الى حالة انسانية حقيقية؟
فنجد الجواب عند هوركهايمر وادورنو بأن ذلك قد تم عندما تحول العقل الى اداة للسيطرة على الطبيعة ثم على الانسان, والمقصود بالعقل هنا العقل الاداتي او التقني القائم على التكميم والقياس والفاعلية و الموجه نحو ما هو عملي وتطبيقي ونفعي, فأصبحت لعنة التقدم المتواصل هو النكوص المتواصل وتعاظم اغتراب الجماهير التي تموضعت وتشيأت ووقعت مثلها مثل حكامها ومديريها في نفس الشبكة المخيفة التي تثبت الوضع القائم ,فمع تشيؤ العقل تصبح العلاقات بين التاس وعلاقة الانسان بذاته بمثابة علاقات مسعورة,لّذلك يرى هوركهايمر ان التنوير المضاد للدين و الميتافزيقا دمر انسجام العقل مع العالم الخارجي ,مما ترتب عليه ظهور نمطين للعقل احدهما عقل تنويري غايته التحرر والقضاء على التشيؤ والاخر عقل اداتي غايته التسلط والسيطرة ويؤدي الى المادية والعدمية ,وبالتالي فمهمة العقل الان هي نقد مايسمى بنقد العقل اي ان تواجه النظرية النقدية العقل بالعقل نفسه وذلك بأن يضع نفسه في خدمة الكل او لمجموع الاجتماعي القائم.
كما نجد ايضا ماركيوز قدم نظرية موجهة بشكل اساسي ضد المجتمع الصناعي ذي البعد الواحد في النظام الرأسمالي ,اذ تؤدي لا عقلانية العقل الى انتاجية متزايدة فتقوم أجهزة الاعلام عن طريق الايحاء بخلق احتباجات جديدة للبشر, من اجل زيادة الانتاج او على الاقل من اجل المحافظة على معدله فلم تعد الاحتياجات البشرية تنشأ من داخل الفرد ,بل اصبحت تنشأ لاسباب تقنية واقتصادية وبالتالي فالنظام الرأسمالي يقوم بتلبية الاحتياجات اللاعقلية للبشر, من أجل زيادة العمل والانتاج وليس من احل تحقيق سعادتهم,هكذا سيطر العقل الاداتي على الجياة الانسانية, فالمنهج العلمي الذي مد سيطرته على الطبيعة نجح الان في السيطرة على الانسان نفسه ,واذا كان عقل التنوير قد انتقد السيطرة وسعى لالغائها, فقد سمح بالعقل التقني الذي افرز المجتمع الشمولي العقلاني لدرجة ان العقل قد نجح في ترسيخ الخضوع للتسلط والهيمنة بشكل ناعم لايمكن ملاحظته.
شارك هابرماس اعضاء الجيل الاول في نقدهم للعقل الاداتي, وكان بامكانه السير على خطى اساتذته في الجدل السلبي, لكنه لم يجد فيه عاملا مساعدا على بناء نظرية نقدية متناسقة منهجيا, وسرعان ماتحول الى ناقد للنظرية النقدية نفسها وجيلها الاول في المرحلة الثانية من تطوره الفكري ,وبالتالي كان افتقار النظرية النقدية الى الاسس المعيارية للنقد وافتصارها على نقد العقل الاداتي, دون ان تتجاوزه الى نظرية نسقية هو ما دفع بهابرماس الى البحث لضخ دماء جديدة تغدي النظرية النقدية, وتتجاوز المسوخ والقصور الذي شابها,وكرد على ذلك سرعان ماراح يتعقب الافكار مهما كان مصدرها ,اذا ما بدا له هذا المصدر منتجا وحصبا هكذا جاءت الحنطة الى طاحونة هابرماس ,من فلسفة اللغة لدى فيتجنشتين ومن تأويلية غادامير ومن نظرية النظم لدى تالكوت بارسونزومن علم النفس المعرفي والاخلاقي لدى بياجي, غير أن المركزي في مشروع هابرماس هو كما قلنا الرغبة في تجاوزما ابداه اسلافه, من عجز في فهم العلاقات بين الذوات ,ففي حين نظر هؤلاء الاسلاف الى الحياة اليومية عبر عدسات اداتية هي عدسات عقلانية الذات-الموضوع مع كل الاثار المؤذية التي يرتبها ذلك على التقدم الانساني راى هابرماس ان هذا ليس سوى جزء من الحكاية فالجانب الاخر المهم من جوانب العقل هو خاصيته التواصلية .
ويوضح هابرماس العلانية التواصلية التي تتبلور من خلالها ما يسمى باسم البراكسيس بقوله “ان العقل التواصلي يتميز كعملية من خلال النية في الاقناع أن يحصل بواسطة تعبير ما على موافقة جماعية فهو يعتبر تدبيرا من خلال محاولتها انهاء النقاش حول ادعاءات افتراضية بالصلاحية”,وهذا ما جعله ينتقل الى اكثر من مجال علمي ولاسيما العلوم الانسانية واللسانيات ,لتشييد ما اسماه العقل التواصلي لتحرير الفكرالمعاصر من الخطاب المتمركز حوال الذات ,وبالتالي فقد استطاع أن طريقا جديدا لاستكشاف مسار العقلانية في افاقها النظرية والغاء مركزية الفهم الذاتي للعالم.
تتميز فلسفة هابرماس بالطابع التوجيهي والسعي المستمر لربط النظرية بالممارسة, حيث نظر البعض الى فلسفته على انها ليست في الواقع ,الا تأسيسا نظريا لمواقف سياسية طبعت مسيرة مثقف انخرط منذ البداية ولا يزال في الحياة العمومية ,ولا يزال يبحث في فكره عن حلول عقلانية لمواجهة التحديات التي يواجهها المجتمع الحديث وفي مقدمتها اعادة بناء مشروع الحداثة ,ومن اجل هذا الهدف وجد نفسه في مواجهة مع مشكلات الحداثة وما آل اليه العقل الحديث, كما وجد نفسه ايضا في حالة مواجهة مع كل التيارات الفلسفية المضادة للحداثة وتيارات مايسمى ما بعد الحداثة ونزعتها التفكيكية ,وكان عليه ان يتصدى للمطالبين بتحجيم دور العقل والمحتجبن على هيمنته داعيا لتفعيله لا لتحجيمه ورافعا شعاره الشهير الفلسفة مشروع لم يكتمل بعد.
اضافة ان النظرية النقدية التي تبناها هابرماس وعمل على اعادة بناءها ,هي النظرية التي انطلقت من القراءة النقدية للاثار السلبية للفلسفة الوضعية والعلموية تلك الفلسفة التي تحولت في نظر مدرسة فرانكفورت الى تبرير ايديولوجي للعقلانية الخاصة بالرأسمالية وهي الفلسفة التي قادت الى ازمة الحداثة. يشمل اعادة هذا البناء نقد الحداثة الكلاسيكية واستكمال مابقي غير مستكمل منها, لهذا فهو يستبدل مفهوم الذاتبة الذي اعتمدته فلسفة الحداثة منذ هيجل كمنطلق لبناء عالم عقلاني ومنظم وانساني بمفهوم تداخل الذاتيات في حوار مستمر ,من اجل الانعتاق الاجتماعي والفكري,كما وجه ايضا سهام النقد لكل من المقولات الماركسية وللنزعة التكنوقراطية انطلاقا من محاولته تجاوز مخلفات الارث الفينومينولوجي الهيرمنوطيقي والماركسي على حد سواء.
تناول ايضا فيلسوفنا مفهوم الفضاء العمومي ’والذي يعد مفهوما كانطيا بامتياز كمفتاح الممارسة الديمقراطية في نظر هابرماس, الذي عمم استخدامه منذ السبعينيات من القرن الماضي وهو يعرفه كدائرة التوسط بين المجتمع المدني والدولة, وهو فضاء مفتوح يجتمع فيه الافراد لصوغ رأي عام والتحول بفضله وعبره الى مواطنين تجمعهم اراء وقيم وغايات واحدة.فالفضاء العمومي بالنسبة لهابرماس ليس معطى سلفا ولا هو قائم خارج التجربة التاريخية انه قبل كل شيء فضاء رمزي يتكون عبر الزمر ويحتاج تكونه الى تبلور مفردات ومنظومات قيم مشتركة واعتراف متبادل بالشرعيات المتعددة الخاصة بكل فاعل ورؤية متقاربة حتى يصبح من الممكن النقاش والاعتراض والتشاور,وبالتالي فهو يعكس طبيعة المشاركة الديمقراطية او التعبير عن تناقض المعلومات والاراء و المصالح ويفترض وجود اشخاص يتمتعون باستقلالية كبيرة قادرين على ان يبلوروا بأنفسهم أراء خاصة لا تكون صدى لاراء النخب الحاكمة او الاحزاب التي ينتمون اليها ويعتقدون ايضا انهم من الممكن التوصل الى حلول عن طريق الحوار والنقاش وليس عن طريق العنف.
زهير سطيح – مدينة إفران
- حسن صدق؛ يورغن هابرماس ومرسة فرانكفورت ؛النظرية النقدية التواصلية؛ المركز الثقافي العربي ؛ البيضاء المغرب ط1؛ 2005
- د كمال بومنير؛ النظرية النقدية لمدرسة فرانكفورت “من ماكس هوركهايمر الى أكسيل هونيث” ط1 2010؛ منشورات الاختلاف الجزائر
- نورالدين علوش فلسفة السلطة السياسية عند هابرماس ط1 لبنان/كندا؛2016
اترك تعليقا