استيقظي.. استيقظي بسرعة!
كان هذا أول صوت أسمعه صباحا، أفزعني وأنا مازلت نائمة وجسدي الغض قد بلغ منه العياء حد الإنهاك، منذ الأمس حين قمت بمساعدة أمي في غسل وتنظيف المنزل عن آخره، بالكاد فتحت عيناي، ولم أقو على تحريك أطرافي، كأنني مصابة بالشلل الكلي، رفعت رأسي كأفعى الكوبرا وهي ترقص على أنغام عازف هندي، تثاءبت مرتين متتابعتين، وهممت بالعودة إلى أحلام بقيت معلقة، استحليت تلك اللذة التي تشعرني بها، و الشعور الجميل الذي يرافقها عندما أتمدد فوق السرير وأتقلب لليمين واليسار، سمعت وقع أقدام تقترب من مضجعي، أحسست بالغطاء يجر من فوقي بقوة، ترافقه صرخة مدوية ردت أرجاء الغرفة دويها:
لقد قلت لكِ استيقظي، ألا تسمعين؟
ماذا دهاك يا أمي! إن الوقت مبكر جداً.
لن تنامي طوال اليوم، هيا قومي لدينا ضيوف على الغداء، علينا الإعداد والتجهيز، فوالدك سيعاتبنا إذا لم نقم بما أمرنا به.
تأففت في وجهها تعبيرا عن عدم رضاي، ترمقني بنظرة حادة، فيها الكثير من الغضب، فهمت من ملامحها المتجهمة، أنها مصرة على ما قالته، نفضت عني غبار العجز والكسل، استفقت وحملت دميتي الصغيرة الشقراء التي أسميتها مارغاريت، تيمناً ببطلة مسلسل مكسيكي مدبلج شغفت به، ولم أفوت أيا من حلقاته، كنت أتسمر أمام التلفاز لأشاهده فاغرة الفاه، فشغفي به يجعلني في حالة ركود وسكون، تلك الدمية صنعتها من أغصان بترتها من شجرة السرو الباسقة المتواجدة في حديقة بيتنا، و قمت بخياطة فستان لها من بقايا إزار رث أحمر اللون، فأصبحت رفيقة دربي ومؤنستي، نلعب وننام معاً، لا يفصلنا عن بعض إلا صراخ أبي المتسلط، كلما غضب يهددني بتهشيمها وحرقها، وحرماني من مشاهدة التلفاز إذا لم استجب لندائه.
استفسرت أمي عن الضيوف، وسبب زيارتهم، لم تجب وتطعم فضولاً أرهق حيرتي، ولا أراحت بالاً تزاحمت به التساؤلات، اكتفت بالقول أنها تجهل من يكونون.
توجهنا نحو المطبخ، وبدأنا نحضر الطعام، نسيت أمر الآتيين، أقفز بفرح، وألاعب مارغاريتا، أقبلها وأحضنها، تجتاح السعادة كياني الصغير، أمسكها من يديها الخشبيتين، أرقص معها وأغني لها أغنية ألفتها بعفوية:
هيا يا مارغاريتا الصغيرة
تناولي من الجزر قطعة
ستكبرين وتصبحين جميلة
ونذهب معاً إلى الحديقة
ونلعب لعبة الغميضة
تقاطع أمي مرحي، وتصرخ في وجهي، اليوم لا تبدو حنونة ولا عطوفة وثمة شيء يزعجها، أواصل مساعدتها في صمت، صوت طرقعات وحده يؤثث الفضاء الواجم.. ويعج سقف المطبخ ببخار المطبوخات، وأزيز الأباريق يصيب الآذان بالصم، ويجعل صوتاً شبيها بالصفير لا يفارق طبلتها.
يدخل أبي في تلك اللحضة، مثقلا بأكياس من الفواكه والمشروبات، تقدم صوبنا وهو يحجل في مشيته، جلس فوق كرسي خشبي، ناولته أمي كأس ماءٍ، عبه بسرعة، نبست شفتاه:
أريد التحدث مع والدتك على انفراد.
غادرت المطبخ بتلكئ وأنا أغمغم في استياء، قبعت خلف البيت، تحت نافذة المطبخ مباشرة، أصخت السمع، شيء ما يحدث وعلي معرفته.. فيبدو أن الزوار هذه المرة ليسوا هنا لاقتناء أبقاراً ولا للتفاوض حول غلة الزيتون، سمعته يقول لها:
إسمعيني جيداً يا فاطمة، ابنتنا عائشة قد كبُرت أصبحت فتاة جميلة، يتمناها كل شباب القرية ، ولا يخفى عليك عيب البنات ومشاكلهن، قد تجلب لنا الخزي والعار، ونصبح أضحوكة بين الناس وعوائلنا و أهل القرية، لما لا نزوجها لابن صديقي التاجر الكبير الحاج عمر، ونرتاح من القيل والقال، الضيوف القادمون إلينا هم خطاب ، ما رأيك ؟
سمعت لطمة أمي على صدرها، وارتعاش صوتها وتهدجه وهي تحاول الدفاع عني:.
إتق الله في البنية يا رجل ، عائشة ما زالت صغيرة، ولم تبلغ سن الحلم بعد، وابن عمر يكبرها بعشرين سنة أو أكثر، لن أسمح بحدوث هذا أبداً، لن ألقي فلذة كبدي في هذا الجحيم ..
أرعد أبي وأزبد، سب وشتم، صرخ وجأر، وتوعد أمي بالويل، إذ هي وقفت عائقا بينه وبين مراده وخرج يزفر من مناخيره كالثور، بقيت مختبئة وأنا أرجف، ولم أعد للمطبخ حتى توارى في الزريبة، وجه أمي ممتقع وقد غادره ذاك النور المشع الذي ألفته، حضنتني بقوة ، وبكت بحرقة، تمازجت دموعنا فقد فهمت أخيرا أن الأمر جلل ،ساد سكون هادر في قلبينا وكأن الزمن توقف تلك اللحظة، فاستحال المكان من حولنا مقفرا و بلقعا خاليا من الحياة، قطعت هذا الجمود وقلت بصوت تشوبه حشرجة:
أمي هل حقاً كبرت؟
لا يا ابنتي إنك ماتزلين صغيرة.
ولماذا يريد أبي تزويجي؟
لا تكترثي، إنه يخرف فقط، أنا معك، لن أسمح بحدوث هذا.
حتى مارغاريتا صغيرة، هل ستتزوج أيضا؟
لم تجبني، سوى بدموع تعبر عن حجم المعاناة التي تنخر أحاسيسها، ضمتني بقوة، كان قلبها يركل في صدرها كعصفور يحتضر.. صاح أبي واضعا حدا لعناقنا:
هااه.. هيا.. الضيوف قادمون، حضري الأطباق وزيني العروس…وعليك الطلاق بالثلاث، إن حاولتِ فعل عكس ما
قلته أو وضعتيني في موقف حرج مع الحاج عمر وعائلته…
لم يكن أبي يخرف كما اعتقدت، بل ينوي تحقيق ما قرره، وأنا غير قادرة على مواجهته.. لقد أصبح رجلاً لم أعد أعرفه..
استسلمت أخيرا، وأذعنت أمام جبروته، وقررت قراراً خطيراً، لا بدَّ مما ليسَ منه بدٌّ، فتهديد أبي يسيطر على تفكيرها كليا، لم أرَ أمي مهزومة وضائعة اللب هكذا من قبل، ربما الحمل كان ثقيلاً على كاهلها، كنت صغيرة على استيعاب ما يحوم حولي من أحداث، إن أسلحة البر والجو وما صُنع منها منذ الأزل، لا تستطيع إضعاف الإنسان، بل تكتفي بقتله، أما الكلام الخارج من لسانٍ متسلط يكون وقعه قوياً عليه، فيقتله وهو على قيد الحياة، ولا شيء أسوء من هذا العذاب الذي يسببه اللسان، فندوب الأول وجروحه تشفى مع مرور الوقت وتنسى، أما الخاصة بالثاني فهي توشم الذاكرة بدل الجسد بوشم المأساة ولن تفارقه مهما حاول جاهدا التخلص منها.
أخذتني أمي إلى الغرفة، تجر معها أذيال الهزيمة، وتنثر حبات الغبن على كل شبر مررنا عليه؛ فتنبت شوكاً يخز أقدامنا الحافية، استسلمت لها، زينتني ودموعها تنهمر كشلال، تئن وهي تسرح شعري، جدلته ضفيرتين ، وضعت لي من عطرها الأثير وألبستني فستاناً قشيبا، نطقت غير آبهة بما يقع:
خذي يا أمي، مارغاريتا وزينيها كما أنا.
تهدج صوتها وغصت الكلمات في زورها:
عائشة؛ دعي الدمية أرضا، عليك التصرف بنضج الآن، لم تعودي طفلة، ستصبحين زوجة.
لقد قلتِ أنني مازلت صغيرة، كيف غيرت قولك؟ لن أتزوج أبدا، مازلت أريد اللعب مع مارغاريتا.
اصمتي.. يا عائشة.. اصمتي، والدك سيقتلنا إذا سمعك تتفوهين بهذه الحماقات. لا مجال للهروب من القدر المحتوم، وهذا قدري وقدرك علينا الرضى به وتقبله، إبقي هنا حتى أناديك.
خرجتْ مهرولة، دون أن تلتفت إلي، بقيت وحدي أعانق مارغاريتا بشغف، بعدها نهضت إلى الشرفة، مددت بصري على طول المساحات الخضراء، أغازل الهواء النقي، كنت أنتظر فصل الشتاء حتى أصنع رجلاً من الثلج، وألعب بندفه مساءً، ونتقاذف أنا وأقراني بكراته، لكن حالياً، الفصل القادم لا أعلم عنه شيئاً، ربما هو جحيم كما وصفته أمي، نادتني:
عائشة أحضري الصينية وتعالي.
كأنني عبد مملوك، أطيع الأوامر وأنفذ الطلبات، قمت باتجاه المطبخ رفعت الصينية بين يدي، ودلفت إلى مكان جلوسهم، تدلت رقبتي کعذق عنب ناضج، واحمرت وجنتاي خجلاً لأنني نادراً، ما أقابل الغرباء، صدحت إمرأة تبين في الأخير أنها حماتي المستقبلية:
-ما شاء الله.. ما شاء الله.. إنك جميلة كِنتي، يا لحظنا الحسن سنظفر بهذه الفتاة من أصل حسبٍ ونسبٍ معروف.
وضعت الصينية فوق المائدة، والحديث مستمر من طرف الحاج عمر:
نتوكل على الله إذن، جئناكم طالبين راغبين في تزويج عائشة لابننا البكر هشام، إذا وافقتم طبعاً.
من سيرفض أن نصبح أَنْسِبَاءْ يا حاج، سمعاً وطاعة، قد قبلنا طلبكم، لنقرأ الفاتحة وبعد يومين سنعقد قرانهما بحول الله، بلا هرج ولا مرج، هكذا قال أبي، كأنني لوحة تعرض للبيع في المزاد العلني، ويشير بإصبعه ناحية أمي إشارة لإحضار طعام الغداء، هللت النساء وتبادل الجميع التبريكات والتهاني، وأنا أكتفي بالمراقبة فقط، كأن الأمر لا يعنيني..فلم يطلب أحد رأيي ولا استشاروني..
عدت إلى غرفتي، ومارغاريتا تلازمني كظلي، أحاول البكاء، لكن على ماذا؟ لا أعرف، فمشاعري آنذاك ليست بالناضجة لمعرفة ذلك كالكبار، قضيت اليومين في الغرفة ألعب معها كعادتي، لا أقوى على فراقها يوما، ولا أعيش بدونها، مرّ اليومان ودق معهما جرس الحسم، صباحاً عاد التاجر عمر وأهله، وبحضور العدول ومختار القرية تم عقد القران، أصبحت زوجة، لا أعلم ما ينتظرني هناك، لقد كنت قبل يومين طفلة تلعب ولا تعرف من أمور الدنيا شيئا.. والأن صرت زوجة وسأفارق بيتنا وأمي وصويحباتي.. لكني لم أكن أدري أنني سأترك مارغريتا..حبيبتي مارغريتا.. فحين أردت الصعود على متن السيارة التي ستأخذني الى المجهول، وإلى بيت زوج لا أعرفه ولا يعرفني، وبينما أمي تودعني بدموع حارقة، أمسكني أبي من ذراعي بشدة وانتزع مني مارغاريتا، حقق ما كان يهددني به دائما، وجعلني اكتشف معنى قسوة لم أنسها طوال حياتي، لقد تخلص مني، سلب براءتي وكسر دميتي ومعها قلبي.
زمجر المحرك، غادرنا إلى وجهتنا، تركت مارغاريتا وحدها، تحولت بعد عام فقط من زواجي، من طفلة تداعب دميتها إلى أم تلاعب طفلتها، ثم إلى جدة تلاعب حفيدتها.
جلست على عتبة المنزل أشاهد حفيدتي منهمكة في اللعب بأغصان الشجرة المتواجدة في الحديقة تصنع بها شيئاً، جاءت إلي مهرولة، ارتمت في حضني، أخرجت من جيبها دمية تشبه التي صنعتها فيما مضى، غادرت دموعي مآقي عيناي، بعد أن عادت ذاكرتي إلى الماضي، ووقفت على أطلالها، تشيع الذكريات التي قضيتها مع دميتي، قالت بصوتها المخملي:
جدتي ماذا أسميها؟
أسميها مارغاريتا.
زهير بوعزاوي – أجلموس، إقليم خنيفرة
اترك تعليقا