لَملمَ صفوان أمتعتَهُ داخل حقيبة ظهره الجلدية، أخذ يرتدي ملابسه البالية، سروال جينز أزرق، ترافقه سترة سوداء اللون، تنتعل قدماه حذاءً رياضيا، يعتمر قبعته وقفازيه المحبوكة خيوطها بأنامل جدته العجوز، خرج من غرفته المتواجدة فوق سطح منزلهم الآيل للسقوط، بخطوات بطيئة مرعوباً يرتجف، تعرقل سيقانه بعضها بعضاً، كأنها تحاول ثنيه عن قراره المصيري والمتهور، وجد والديه معا وكذا شقيقته ينتظرونه في الدهليز، بوادر الخوف رسمتها لحظة الترقب على ملامحهم، يكاد بؤبؤ والدته أن يسقط من شدة العويل، تملكتها نوبة هستيرية بعثرت صمودها أمام جبروت الحياة القاسية أيامها على ابنها الغض، قاومت دموعها، فتحدثت رغم المغص القاطع لتوسلها، كلعبة الكلمات المتقاطعة تزين صفحة جريدة بللها المطر، تصرخ:
-بني، إبقَ معي أرجوك!
ركع على ركبتيه أمامها متخشعاً، يتلو عبارات الصفح، مصراً على مغادرة أرض التعاسة المملوءة خراباً، تتغذى وحوش الفشل فيها على ريعان الشباب الطموح، يثقل الفقر كاهلهم، أذعنت لرغبته في الأخير مجبرة، تريد بقاءه، لكن إرادته الجامحة فاقت طلبها، مواعداً إياها بتغيير قدره مهما كلفه الأمر من ثمن، يطمئن هلعها العابث بحنانها:
-أماه، ألم تري أن أقراني هاجروا بلادهم فقراء وعادوا أغنياء؟
عم الصمت مكان النواح، يتبادل الأربعة نظرات السكون، تحوم حول جماجمهم علامة الدهشة، تطرح قرارة أنفسهم وابلا من الأسئلة المتساقطة فوقهم، تلتحف المبهم بلا جواب، أنهت أخته البالغة خمس سنوات هدنة الجمود، نطقت بصوتها البريء الخافت ولا علم لها بما يقع:
-أخي، عندما تعود اِشتر لي دمية و شكلاطة.
اِقترب منها ببطئ، فمسك رأسها بلطف، فطبع قبلة طويلة على جبينها، ثم ضمها إليه بعنف كالمشتاق، حتى كاد يدخلها دواخل قفصه الصدري المتعب جراء توالي ضربات فؤاده المرتعشة.
آخر مرحلة الوداع كانت لأبيه عبد الله الصامد في وجه الشقاء رغم صعوبته، مازال يصارع لآخر قطرة دم تجري في عروقه البارزة على جلده المترهل لبلوغه سن المشيب، يمتهنُ حرفة صيد الأسماك، كلما جاد البحر عليه بصيد وفير قايضه مقابل الخضر والفواكه، وإذا أجحف اليم في حقه اِكتفى بأخذ غنيمته القليلة للبيت، تطبخها زوجته لتسكت عواء أمعائهم الجائعة، يحمل هموم العيش وحده دون عائل آخر يعينه. فصفوان تخرج حديثاً، ولا يبتغي العمل بأجرة زهيدة، حلمه دائما أن يصبح رجل أعمال ناجحاً، لكنه لا يمتلك الوسيط أو يعرف صاحب نفوذ كما هو المال، فحال ذلك دون تحقيقه مراده، وكانت البطالة حليفه والسبب الذي دفعه للرحيل من الوطن، نبس عبد الله ببنات شفتيه يحاور ابنه بالتي هي أحسن:
-صفوان، طوال السنين الماضية، تحملت عناء توفير النقود من أجل متابعة دراستك المكلفة لتصبح ذا شأن هنا، لكن أعلم جيداً أن أبناء البورجوازيين يفتح لهم المستقبل الزاهر أبوابه على مصراعيها، بينما البروليتاريين أمثالنا ترمي لهم الحياة بالفتات فقط، واعلم-يواصل الأب حديثه-أنك ستذهب ولا أحد يستطيع إيقافك، لكن توخ الحذر، وكن منتبهاً جيداً، ولن يصيبك إلا ماكتبه الله لك، سأنتظر عودتك بشغف. وفجأة، رن هاتف صفوان، أخرجه من جيبه، نقش على شاشته رقم غريب لم يسم صاحبه، يرد صفوان:
-ألو..من المتحدث؟
يجيبه المتصل بسرعة:
-ألم تتعرف علي؟
-لا، أخبرني من؟
-أنا الشخص الذي اتفقت معه صباحاً أن يساعدك على الهجرة!
-أه نعم! لقد تذكرت.
-حسناً، عليك الآن أن توافني قرب نقطة الإنطلاق في ظرف نصف ساعة،لا تتأخر!
-حسنا، أنا قادم حالاً.
أقفل صفوان الخط، يلقي خطبته الأخيرة المليئة كلماتها بؤساً، قبيل مغادرته، أهداه عبد الله ساعة يد كلاسيكية ورثها من والده، حثه على الحفاظ عليها حتى يتسنى له تذكرهم دائما، بعد عناق دافئ دام بضع ثوان معدودة، غادر صفوان نحو مكان اللقاء بالمساعد، وصل إلى وجهته، على ضفاف الشاطئ، وتحت شجرة الصفصاف جلس القرفصاء، أخذت مخيلته تسبح في اتجاه عالم الغنى والبذخ، رغم أن جسده مايزال عالقاً داخل وحل الفقر المدقع، يبتسم ابتسامة المنتصر لما مرت ذاكرته الحالمة بالملاهي والكازينوهات و أجود الخمور والشقراوات ذوات الأجساد الممشوقة قوامها. هنيهة، اِستفاق من أضغاثه الكاذبة على صوت المساعد يصيح به:
-صفوان، هيا اركب قبل حضور خفر السواحل!
هرول صفوان مسرعا كعداء أوشك على تحقيق مجده، اِرتمى في أحضان قارب النجاة من رقعة جغرافية تعد مقبرة الأحلام، جر المساعد حبل المحرك مرتين فزمجر عاليا يعلن حالة فرار، بين مد وجزر تتقاذف الأمواج العاتية القارب تارة للأسفل وأخرى للأعلى، كأنه طفل حديث الولادة، يتشبث صفوان بمجذاف مكسور النصف ترتعش فرائصه، بينما في ضفة البيت أيادٍ رُفعت إلى السماء، ترتل آيات من الذكر الحكيم يرافقها دعاء بالسلامة للإبن طالبين الخالق أن يبلغه بر الأمان سالماً معافى. مازال سبيل الوصول بعيداً، وصفوان يكابد عناء ارتطام علب سردين فارغة برأسه، تناولها المساعد قبل أن يقله، لتفجر سيل دماء جارفة زادت طينة معاناته بلة، تنهد تنهيدة ألقت كل أنفاسه المطحونة عن رئتيه، يحاور نفسه مونولوجا :”ليتني لم أفعل هذا” أوقدت السماء برقاً وهاجاً، ينذر بقدوم عاصفة تمخضت عنها رياح هوجاء، تراقص خصلات الأمواج المرفرف ماؤها عاليا، أعادتها الجاذبية بقوة؛ فهوت على القارب الصغير أردته محطماً ينتشر حطامه في الأرجاء، بعدها سادت حالة من الهدوء، وسكنت أحوال الطقس الغاضبة، فقط نعيق طيور النورس المحلقة عالياً تنشد به لحن الفرح بالوليمة، تشيع جثمان صفوان لما شاهدت جسده النحيف يطفو على سطح الماء حين وافته المنية غرقاً، ذنبه الوحيد أنه أراد تحسين وضعه مادياً، لكن مصائب القوارب لا تأتي سالمة كل مرة ولا تحقق الأماني، ليست مصباح علاء الدين السحري، بل مجرد قطعة خشبية متهالكة، تخير من يمتطيها خيارين لا ثالث لهما، ربما تنتشلك من بطش العوز في وطنك، أو تلقي بك إلى التهلكة قبل الوصول صوب المستقبل كما يخيل للكل أن وراء المحيطات توجد جنة سرمدية، زهقت روح صفوان غدراً من الطبيعة، دون رسالة أو خبر يبعثه أحد لذويه، حتى المساعد اختفت جثته في قعر المحيط، اِنقبض قلب أمه، أحست أن مكروها قد أصاب فلذة كبدها، فإحساس الأمومة لا يخطئ أبداً، طال غياب صفوان، ومازال عبد الله كلما اصطاد سمكة يغرس سكينه في بطنها شاطراً إياها إلى نصفين، ينبش أحشاءها بحثاً عن ساعة اليد التي أهداها لابنه قبل مغادرته.
الآراء الواردة في هذه المشاركة تعبر عن رأي صاحبها فقط.
زهير بوعزاوي 24 سنة، قرية أجلموس، إقليم خنيفرة؛
طالب جامعي في كلية المولى اسماعيل بمكناس؛
كاتب مبتدئ، لدي مجموعة من الأعمال المنشورة ورقية في كتب مشتركة وجرائد ورقية ومجلات كذلك، وفائز في مجموعة من المسابقات العربية.
اترك تعليقا