اختلط صوت الرعد، بضربات حبات المطر على الأرض، كانت هذه ليلة ممطرة، ومع تواصل سقوط المطر اشتدت الرياح أكثر فأكثر فكان الخروج من المنزل غير ممكن. كان كل سكان البلدة في منازلهم، في حين ولج بعض الأشخاص الحانة يتدفؤون بالخمر والفتيات، وقفت العربة أمام المعبد تنتظر خروج المعلم إيمون، كان هذا وقت صلاته، فجلس الطفل آون ينتظره في الخارج قرب العربة، كامت الأمطار تتساقط بغزارة وتزداد شدة، لكنه يكره أن يدخل أحد المعبد وقت الصلاة، فما كان عليه إلا الإنتظار، في حين كان المعلم في الداخل يختم صلاته، كان عادة يصلي لحد انتصاف الليل لكن رسالتها، جعلته هذه الليلة يصلي فقط لساعة واحدة، كان رجلا طاعنا في السن، ولربما كان أكبر معمري البلدة، زينت صلعته بضع شعيرات بيضاء ونمت مثلها على وجهه. لما انتهى من الصلاة قام وفك الرباط عن عينيه ثم لبس معطفه الأسود الثقيل، كان معطفا يناسب ليلة كهذه، ثم أمسك عصاه وخرج، هبط بضع درجات ثم تمشى نحو الباب، كان بعض من الرهبان يؤدون صلاتهم هنا وهناك. لما خرج وجد الطفل آون واقفا ينتظره كان أحب الأطفال إلى المعلم فلم يكن كثير السؤال أو أية شيء بل كان طفلا مطيعا، فكان ينفذ كل الأوامر بدون أية سؤال، إضافة إلى هذا كان طفلا قوي البنية وماهرا في استخدام الأسلحة، على أن لا أحد كان ليجرؤ ويعتدي على المعلم إيمون. حياه الطفل لما رآه قائلا: في خدمتك أيها المعلم،في حين رد عليه المعلم: السماء تبكي علينا يا آون، ترى أي ذنب اقترفناه؟، صعد المعلم إلى العربة، ثم قال لآون لنذهب إلى البلدة لا بد أنها تنتظرنا، لم تتوقف السماء عن المطر طيلة الطريق، لما وصلوا إلى البلدة، أخبر المعلم الطفل سائق العربة بالتوقف أمام منزل ليسا والبفعل بعد لحظات وجدوا أنفسهم أمامه، توقفت العربة، ثم نزل المعلم كان باب البيت مفتوحا فصعد إيمون في حين ظل آون في الأسفل ينتظره.جلست ليسا قرب نافذة منزلها في الدرج العلوي تراقب سقوط المطر، كانت لها دكريات سيئة مع المطر، ففي ليلة كهذه منذ سنة خرج أبوها ولم يعد.كانت على يقين بأنه مات، فلم تسمع عنه أخبارا منذ ذلك الحين، حتى ليلتها عندما أخبرها ريان عن الذي قاله الشريف، لم ترد أن تبني آمالا تعلم أنه قد تتحول إلى آلام، فكيف يرجع الذي ذهب، لا زالت تتذكر خروجه من المنزل، كانت كلماته رقيقة تلك الليلة فلم يقل شيأ طويلا كما كان يفعل، بل قال لها اعتني بنيسا ثم رحل، وإلى الآن فلا زالت تتمنى عودته. جفلت ليسا للضجة التي أحدثها إيمون لتستدير ناحيته بسرعة، لما رأته سكنت ثم قالت: آه معلم إيمون آسفة لإستدعائك في هذه الساعة وفي هذه الليلة. نظر هو إليها ثم قال: كان يجب أن آتي قبل سنة لأمنع والدك، لكن لم أقدر وقتها، ثم نظر إليها بنظرة عطف وقال: ولكني جئت الآن من أجلك. قامت إليه واحتضنت يده، كانت كيد أي عجوز في مثل سنه رقيقة وهشة، اعتصرتها لبعض الوقت ثم قالت له: لا عليك يا معلم، لم يكن سيتوقف بأية حال، آه لماذا الحياة غريبة لهذه الدرجة!.
ثم جلست على كرسيها وجلس هو مقابلها على كرسي خشبي، جلسا أمام النافذة يصغيان لتراطم حبات المطر بالأرض، كانت ملابس المعلم إيمون تصبغ بالطين والمياه، لم يكن يقطن بالقرب من هنا، فكانت تأخذه مدة من الزمن ليصل، بعد صمت قليل قال إيمون: حسنا يا ليسا اسردي علي ما رأيته. حدقت فيه بذهول قليلا، فلم تكتب في رسالتها اي شيء عن الحلم كان كل ما كتبته أنها تود رؤيته. لكنها لم تجرؤ على سؤاله كيف عرف بل قالت: لقد كان كابوسا، حلما مخيفا يا معلم إيمون، لقد رعبت منه، كنت نائمة هناك في الحلم تحت الشجرة التي قرب النهر، لكنه لم يكن كأية نوم كنت أشبه بالميتة فلم اكن أتحرك أو أفكر كنت فقط متمددة أشاهد، ورق الشجر يتساقط حتى نفذ، كان وكأن كل الأشجار اختفت فتحول الأمر إلى صحراء قاحلة، وهاجت المياه حتى غمرت كل الأماكن الأخرى، لقد رأيتهم يغرقون لم ينجوا أحد منهم، كل سكان القرية يا معلم، كانت دماعتها تتساقط كالمطر في الخارج، حتى كونت بركة صغيرة أسفل قدميها. لما انتهت من كلامها، اقترب منها إيمون وقال: لا عليك لقد كان مجرد حلم سيء، لا تهلعي، ولكن أخبريني يا ليسا لماذا ما زلت هنا؟ لماذا لا تغادرين؟ ردت ليسا بحزن: إنه يأبى أن يذهب معي، ريان أعلم أنه لم يعد لي شيء هنا، ولكن لا أريد المغادرة من دونه.
أومأ إيمون رأسه ثم قال: سيجيء وقت ويتحتم عليك فيه المغادرة معه أو بدونه، يجب أن ترحلي، وتبتعدي قدر الإمكان عن هنا، إن المكان هنا مخيف، والمهرجان يقترب، وقد يعيدون الهجوم، أنت لا تودين أن تموت نيسا الصغيرة،. هلعت نيسا لذكر هذا الأمر واعتلت ملامحها نظرة خوف، نيسا كيف أسمح أن يصيبها مكروه، أليست هي أهم شيء في حياتي، عصفت برأسها هذه الأسئلة وأكثر، لقد كانت تلك هي وصيته أن أحميها وذلك ما يجب علي أن أفعل. ردت على إيمون وأضافت: سأغادر يا معلم بعد غد، بعد أن يرحلوا. رد عليها المعلم: هسى أن ترافقك رحمته، وأن تكوني بهذا تفعلين الصواب، ثم قام من مكانه، يتكئ لا عصاه ليغادر، ودعته ليسا قرب الباب التحتي، ثم عادت تصعد الدرجات، لما خرج المعلم وجد الأمطار لا زالت على حالها تتساقط بقوة، فتح له الطفل آون باب العربة، لما جلس وخلع عنه معطفه الأسود قال لآون: حسنا لنذهب إليه، أخشى أن العاصفة قادمة إلينا، يجب أن أحادثه. إنطلقت العربة في حين ظل المعلم يردد أي كارثة ستحل علينا.
دموع ليسا الجزء الخامس: أهازيج الليالي.
سيحمل الليل أحلى الأحلام، وفي كل يوم جديد سنولد من جديد، هكذا كانت تردد ليسا لأختها الصغيرة في كل صباح وقبل نومها، كانت فتاة صغيرة بيضاء تشبهها كثيرا، حتى أن الآخرين كانوا يقولون أنها نسخة صغيرة من ليسا، لقد أصبحت الآن مسؤوليتها بعد اختفاء أبيها وموت أمها، لا تزال ليسا تتذكر كيف كان خبر أبيها كفيلا بتحطيم أمها، والتسبب في الأخير في موتها، كان ذلك بعد أسبوع من حادثة المهرجان، كان قد مضى على مغادرته خمسة عشر يوما كاملا لم يخطر لأحد أنه قد مات، خاصة وأنه لم يكن حاضرا يوم الهجوم، لقد كان الجميع يتساءل كيف أنه لم يكن موجودا حينها، لكن الجميع بعد ذلك فهموا لماذا لما رأوا جثة رانان والد راين، كان ذلك اليوم يوما مشؤوما منذ صبيحته، فقد كسرت فيه نيسا ذراعها لم كانت تهبط من على الدرج، فكان عليهم استدعاء المعلم لمداواتها، وكان قد جاء وجلب معه الخبر الأسوء. لكنه لم يقل شيأ حتى أنهى تضميد ذراع نيسا، لما انتهى كانت هي قد نامت من فرط الوجع. فانفرد هو بأمها وهي وهناك أخبرهما أنه لم ينجوا أحد منهم وأنهم كلهم قد ماتوا، وأنهم عثروا على جثة جميع الرجال الذين رحلوا إلا جثة والدها، وأخبرهم ألا يمنوا النفس في إحتمالية بقائه على قيد الحياة، ذلك أنه وجدوا كل الجثث مشوهة بفعل افتراس قطيع من الذئاب لها، فقد يكون ذئب ما قد أكله.
صدمت أمها لهذا الخبر، حيث كان أسبوع واحد كافيا لجعلها تغادر هذه الحياة، ليلتها خلدت إلى النوم كأي ليلة أخرى غير أنها لم تفق بعدها إطلاقا. كم هي مظلمة هذه الحياة، وكيف هو مخيف أنه الإنسان لا يستطيع معرفة متى قد يموت ومتى يولد. والآن وقد مر عام على تلك الحادثة الشوعاء، هاهي ليسا تتذكر كل شيء كأنه قد البارحة فقط. لا يزال كلام المعلم يشغل بالها لقد طلب منها المغادرة، ولأي سبب أنا باقية هنا؟ هكذا كانت تتساءل بدون أن تستطيع أن تجيب.في بعض المرات كانت تقول لراين لكنه لم يزرها ولم يعد يريدها منذ تلك الليلة، الحقيقة أنها حاولت الذهاب إليه لتكلمه، لكنها لما علمت أنه سيغادر مع الشريف وأصحابهم كانت قد أدركت أنها لن تغير رأيه بأي طريقة. عير أنها قررت الذهاب لتوديعه رفقة أهل القرية، فقد تقرر أنه سيقام لهم حفل وداع علهم يكسرون هذا الكابوس إلى الأبد، فكان شارع البلدة الذي تقع فيه الحانة مليء صبيحتها بالناس، اصطفوا على كل جانب لمشاهدة الرجال يرحلون يطلقون الآن علبهم فرقة الموت، أو الميتون للمصير الذي ينتظرهم، كانت المياه التي سقطت البارحة قد شكلت بركا صغيرة هنا وهناك لكن الناس التي كانت هناك لم تبالي بل وقفوا في الماء وفي كل مكان لم يكن هذا الشارع بعيدا على منزلها، فلما سمعت دوي البوق خرجت لتشاهد راين يغادر، كانت تريد أن تذهب لتمنعه، كانت تريد أن تقبله، لكنها لم تقدر بل صعدت فوق حصانها ووقفت في مؤخرة الشارع على مسافة ليست بالبعيدة لتشاهد خرج كل واحد منهم من مكتب الشريف تباعا كان الكل قد تسلح بأسلحته، وكانو تسعة أشخاص تعرفت نيشا على إليون الكبير وراين والشريف والضابط، ولم تعرف الآخرين فلم ترهم من قبل.بعد تحيتهم للناس هناك ركب كل منهم حصانه وغادروا وسط تحيات الناس المتجمهرة هناك. كان راين يبدو جميلا، وقفت تشاهده هناك ولم تدري أن هناك بعض الدمعات تسقط من عينيها، مسحتهما ولما اختفوا كانت فد اتخذت قرارها بالفعل فيما ستفعله.
وهكذا رجعت وبدأت تضم ملابسها، وقالت لأختها: سنغادر.
زكريا عبد اللوي – مدينة وجدة
اترك تعليقا