عرف الحضور النسائي المغربي في المشهد الثقافي في المغرب منذ زمن خصوصا مع الاستعمار الفرنسي وعصر المقاومة وما بعدها، حيث انخرطت المرأة في الدفاع عن حوزة الوطن، وقد عرف هذا الأمر تطورا كبيرا يؤسس لرابطة من الكاتبات المبدعات أمثال الزهرة رميج كاتبة الرواية التي نحن بصدد مراجعتها “قاعة الانتظار”.
الزهرة رميج، قاصة وروائية مغربية، من مواليد 7 يناير 1952 حاصلة على الإجازة في الأدب العربي بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بجامعة محمد بن عبد الله بفاس عام 1973، وحصلت كذلك على شهادة الكفاءة التربوية بالمدرسة العليا للأساتذة في نفس السنة، وحاملة للعضوية في اتحاد كتاب المغرب، مارست مهنة التدريس قبل أن تتقاعد في إطار المغادرة الطوعية سنة 2005 وتتفرغ بذلك للكتابة.
جاءت روايتها في طبعتها الأولى بغلاف يلفت انتباهنا بمجرد حملنا ورؤيتنا للرواية فهو العتبة الأولى، إذ يقدم لنا العديد من المعلومات بشكل متناغم، لتشكيل لوحة فنية جمالية تعرض نفسها على قارئ مبدع، وتمارس عليه سلطتها في الإغواء، بغرض تشويق المتلقي. نجده يتكون من العديد من الوحدات منها؛ اسم صاحبة الرواية في رأس الكتاب أسفله عنوان الرواية بخط عريض، ثم بعده تظهر الصورة في لون خاص مميز للغلاف مذيل بدار النشر والطباعة وفي الجانب الآخر، نجد اقتباسا من متن الرواية، وفيه تشير الكاتبة إلى العديد من الأفكار في الأفق، تدفع القارئ إلى زوبعة من الفرضيات والتساؤلات التي تدفعه إلى الدخول لعالم النص وتمحيص فرضياته.
لا تقل قيمة الصورة في الغلاف عن الكلمات، في عملية تأويل المعنى فهي صورة أيقونية تسعى إلى تحريك الدواخل والانفعالات لدى القارئ، وبهذا تكون جمالية المرئي مكملة للمكتوب، إذ أن الصورة تعمل على نقل الأفكار والدلالات بلغة الشكل واللون والخط وعبرها ننتهي إلى الفهم والإدراك عبر تحريك وإعمال العقل ومهاراته، والصورة هنا هي ساعة حائطية، وبتأويل بسيط بربط الصورة مع العنوان نجد أن الساعة الموجودة في الصورة، كأنها تلخص الانتظار ولطالما ارتبط الانتظار بالزمن وبالنظر إلى الساعة الحائطية مرارا وتكرارا في انتظار الوقت المطلوب وكأن الكاتبة استوحت الصورة من العنوان فأي قاعة للانتظار لابد لها أن تحتوي على ساعة حائطية حيث يراقب المنتظرون الوقت الذي ينتظرونه.
غير بعيد عن الصورة، يلاحقنا فهم دلالة اللون المسيطر على الغلاف، الذي يجب ربطه بنفسية الكاتبة وكذلك بالدلالة السابقة للصورة والعنوان، حيث تسهم دلالات اللون في نقل الدلالات الخفية والأبعاد المستترة في النفس البشرية، وغلاف الرواية يتفجر بلون الشمس ساعة الغروب، في إشارة للساعة التي تشير لوقت الغروب، والتي ترمز لنهاية رحلة الشمس من مشرقها إلى مغربها ومن المعروف أن الجميع يعلم أن انتظار غروب الشمس واختفاءها في الأفق يبعث في النفس خليطا من الحزن والرقة وتدفق المشاعر الجياشة، وهنا يمكن احتمال إثارة الكاتبة للانتظار بالساعة المحلاة بلون الغروب، قصدا لمعنى انتظار النهابة المحتومة، النهاية المعروفة نهاية رحلة الشمس، كرمز لانتظار نهاية محتومة أخرى قد تشكل تيمة الرواية.
لا يخفى علينا أن العنوان من أهم عناصر وعتبات دخول عالم النص، لهذا كان لابد من الوقوف على هذا العنصر الذي قد يكون ملخصا للنص أو مفتاحا يشكل أفق انتظار القارئ ويوجهه بسلطته، باعتباره سؤالا إشكاليا يتكفل النص بالإجابة عنه، فهو يعلن عن نوع النص، وبالتالي عن نوع القراءة التي يتطلبها النص، وقد جاء عنوان النص من الناحية التركيبية عبارة عن مركب إضافي مكون من مضاف (قاعة) ومضاف إليه (الانتظار) وهو من الناحية النحوية خبر لمبتدأ محذوف تقديره اسم الإشارة (هذه)، في ضوء هذه المعطيات فإن عنوان الرواية يدل على مكان مخصص للانتظار وبما أننا نعلم الخلفية التي نهلت منها الكاتبة روايتها وهي مرض السرطان فيمكننا التنبؤ بأن قاعة الانتظار هذه تخص إحدى المصحات التي تعالج مرض السرطان حيث ينتظر المرضى وذويهم المصير المحتوم أو النهاية المرتقبة.
قبل المرور لمراجعة النص الروائي، يستوقفنا الإهداء، باعتباره عتبة أخرى تحمل داخلها إشارات ذات دلالة توضيحية، فالإهداء يظل جزءا من الرواية، وحزمة من المفاتيح التي تصلح لفك عناصر الرواية كما رواية قاعة الانتظار، والاهداء هنا هو تقدير من الكاتبة وعرفان تحمله لكل الذين أصيبوا بالسرطان هم أو ذويهم، فقد جاء الاهداء عاما يحيط بكل من اقترب من نار وجحيم السرطان وذاق من ذلك الألم، ذلك أن الاهداء يدل على المبعوث أو المرسل من الكاتبة ، وقد حقق الاهداء وظيفته الدلالية بما تحمله من معنى للمهدى إليه والعلاقات التي سينسجها من خلاله بين الكاتبة وجمهورها الخاص والعام.
تدور أحداث الرواية حول موضوع السرطان الذي أضحى في الآونة الأخيرة يجتث الأرواح تلو الأخرى، حيث عملت الروائية على تقديم تلك المعاناة التي يتكبدها المريض والحالة النفسية التي يكون عليها هو وعائلته، ولفعل ذلك قسمت الكاتبة الرواية إلى ثلاثة مقاطع نوردها على التوالي مع تلخيص أهم أحداثها على الشكل الآتي:
– ما قبل البداية:
في هذا الفصل الاستهلالي حاولت الكاتبة لفت انتباه القارئ من خلال هذا الاستهلال الرومانسي، الذي يحيل القارئ على العديد من التساؤلات التي تستفزه لمتابعة القراءة، وفيه أيضا تعرفنا الكاتبة بأهم شخصيات الرواية وتحيطنا علما بالسياق الذي ستجري فيه الأحداث.
– الطيور الخضراء تغادر باكرا:
في هذا المقطع والذي يضم اثنين وخمسون فصلا تدور كل أحداث الرواية من بدايتها إلى نهايتها، حيث تحضر فدوى عند الدكتورة منال الراشدي ليتم كشف مرض يوسف وحقيقة اقتراب موته المحتوم، في حين ستقرر فدوى التلاعب بالحقيقة على زوجها في محاولة للتشبث ببصيص من الأمل في علاجه، بعد ذلك ستعود فدوى للمنزل بعد معاناة مع الازدحام المروري محاولة إخفاء دموعها في خلوتها مع أفكارها، بينما يبتسم وجهها عندما يصطدم بيوسف وطفليها والشغالة.
بعد ذلك يمتثل يوسف وفدوى أمام الدكتورة منال لأداء مسرحية سماع خبر المرض لأول مرة من الدكتورة التي أدخلت يوسف في جو حانق أفقده الرغبة في الحياة، بعد أن دخل مع زوجته في صراع فلسلفي داخل سيارتهما المسرعة نحو مصحة السعادة التي نصحتهم بها الدكتورة، دخلت فدوى المصحة ويوسف برفقتها وهنا تحيلنا الكاتبة لأول مرة على قاعة الانتظار حيث ينتظر الأهل مرضاهم، تدخل فدوى مكتب البروفيسور حجاج صديقي ويعقبها يوسف ليتفق معه على إجراء عملية جراحية في أقرب وقت مستمرين في مسرحية أن يوسف لا يزال مرضه في مراحله الأولى، بينما ظل يوسف فاقدا للأمل ولاسيما أنهم خرجوا من المصحة حاملين هم مبلغ العملية.
ثم بعد ذلك ستعود فدوى لعيادة صديقتها لشكرها على صنيعها إذ ستدخل معها ثانية في نقاش حاد حول إمكانية علاج يوسف، متعجبة من صلابة وقسوة صديقتها في تسليم زوجها للموت وهنا الكاتبة تشير إلى استغلال المستشفيات الخاصة للمرضى واستنزاف أموالهم، بوضع آمال على عمليات لا طائل منها، وقد انتهت زيارتها للدكتورة بنصحها ليوسف بترك السيجارة في هذه المرحلة، لكن فدوى ستقرر عدم إجراء العملية أملا في علاج زوجها الذي سيبدأ رحلته الجديدة بمصحة السعادة، حيث ستبدأ فدوى سماع معلومات لم تكن تدري بها أثناء تواجدها بقاعة الانتظار، وستستمر حصص علاج يوسف في انتظار حصول شيء ما، في استغراب من البروفيسور على إكمال يوسف شهرا من العلاج الإشعاعي دون أن ينهار وظل محافظا على حيويته، ما سيجعل الدكتور حجاج يضرب موعد بدأ العلاج الكيماوي بعد أسبوع، في هذه المرحلة ستتعرف فدوى وزوجها على الدكتور رحيمي الذي سيسهر على العلاج الكيماوي لزوجها، متفاجئة بإنسانيته واختلاف لغته اللينة عن البروفيسور وإيمانه بأمل الشفاء، انتهت حصته الأولى وعاد متعبا للمنزل بينما فدوى حافظت على روتينها اليومي في قراءة مجلات الصحة لمتابعة أخبار السرطان التي ستستفيد منها لوضع نظام غذائي محارب للسرطان، هذا النظام الغذائي الذي سيساعد يوسف على اجتياز ثلاثة أشهر من العلاج الكيماوي دون أن يموت كما قالت الدكتورة والبروفيسور، لم يدم على ذلك إلا شهور حتى سقط منهارا لأول مرة بعد سنة من العلاج، إذ لم يوافق له الطبيب على دخول حصة العلاج الكيماوي بعد رؤيته للتحاليل غير السارة ليوسف.
بعد الذي حصل زادت فدوى عزما على إغناء نظامها الصارم في إطعام زوجها، مضيفة الحلبة التي أعادت له شهيته وقوته وعاد للعلاج مرة أخرى، بل وزاد وزنه في مفاجأة لم يسبق لها نظير حتى أنه بشر بشفائه التام من سرطان المريء، لكن يوسف لم يفتأ يفرح بهذا الخبر حتى صدمه الدكتور رحيمي بسرطان الكبد، حينها أخبره البروفيسور بأنه سيجرب علاجا جديدا يستعمل في أمريكا، بعدما دخل في نقاش متوتر مع فدوى حول إمكانية ونجاعة هذا الدواء في العلاج، ذلك أن فدوى ستضطر للتنقل إلى مكتب التعاضدية بالرباط ذهابا وايابا، نقلا لتقرير البروفيسور حيث رفض طلبه أول الأمر ثم وافقت اللجنة أخيرا منحه الدواء الباهض الثمن.
وبعدما تم الحصول على الدواء سيخضع بعدها يوسف لعملية زراعة آلة في صدره يتم من خلالها منحه الدواء الجديد والتي كللت بالنجاح، ومع مرور حصص العلاج بدأ يوسف يمر بحالة سعال، تزداد سوء يوما على يوم لينتهي الأمر باكتشاف أن السرطان قد انتقل إلى رئتيه، إذ أخبره البروفيسور أن عليه إجراء عملية جراحية في أسرع وقت لإزالة الماء من رئتيه، في صدمة مفجعة لعائلة عدناني . أجرى يوسف عمليته بنجاح لكنه ظل في المصحة بالعناية المركزة حيث ظل وقتا فاقدا وعيه، قبل أن يستفيق ليكلمها لأول مرة بعد العملية، بعد أيام تلقى يوسف تصريح خروجه من المصحة بعدما تخلص من ذلك السعال الحاد الذي كان يعاني منه، بعدما استعاد يوسف قليلا من حيويته، ستذهب فدوى بإشارة من جارتها اسمهان إلى الرباط بحثا عن أخصائية الأعشاب لعلاج السرطان، وعادت ومعها الدواء الذي أعدته هذه الأخصائية اليابانية بمبلغ باهض في سبيل أمل شفاء يوسف، الذي بدأ ينقص شيئا فشيئا، مع مرور الأسابيع ويوسف يتناول خلطات الأعشاب حالته ازدادت تدهورا بظهور النتوءات في سائر جسده، الذي لم يعد يتحمل حتى سريره القديم، إذ قامت فدوى بتغييره بآخر مريح حيث لم يعد يوسف قادرا على الخروج من المنزل ولا متابعة العلاج منذ بدأت ملامح الموت تعلو وجهه ولاسيما بعد ساعات خبر وفاة أسامة الذي حل عليه كالصاعقة.
بعدها بأيام ستنفجر فدوى هلعا في صباح يوم رأس السنة، باختناق يوسف وفقدانه القدرة على التنفس العميق مع رغوة تكسو فمه، بينما فدوى مصدومة كباقي العائلة في انتظار سيارة الاسعاف فقط ينظرون ليوسف يتعذب وحيدا، أدخلوه المصحة فورا للإنعاش وأعطوه مهدئات، وأخبروا فدوى أنه يلفظ أنفاسه الأخيرة وأن عليها إرجاعه للمنزل حتى يموت في بيته مرتاحا، وذلك بعدما سيزيل الآلات التي ألصقوها به لتهدئته.
– ما بعد النهاية:
في هذا الفصل تنتهي أحداث الرواية بمشهد الأربعينية الخاصة بيوسف حيث تلتقي فدوى بحمادة بعد مدة طويلة، الذي سيذهب معها للمصحة لسحب ملف يوسف وخلال طريقهما بالسيارة سيخبرها بسر كلفه يوسف بإخباره إياها في هذا المقام، بأنه إن أرادت الزواج فلا بأس به خير صديق وعون ليحل محله، في الأخير تنتهي الرواية في المصحة التي لم تعد على سابق عهدها إذ ازدادت الكراسي الضيقة في إشارة لازدياد مرضى هذا الداء الخبيث، منتهية الرواية باستنكار من الكاتبة بصوت فدوى حول إلى متى سيدوم هذا لانتظار، ومتى ينتهي جحيم انتظار الشفاء، شفاء مرضى السرطان في السطح وشفاء الوطن بأكمله في عمق دلالة الانتظار.
ينقسم الرهان دائما إلى رهان المحتويات ويتأسس حول الشخصيات والموضوعات المتنازع عليها، ورهان الرواية يتأسس على علاقة المؤلف مع المتلقي أو علاقة النص مع المتلقي، وإذا عدنا إلى متن قاعة الانتظار وجدنا أن رهان المحتوى الذي له علاقة بالشخصيات يتراوح بين الفشل والنجاح، ففدوى نجحت في رهانها حول نجاعة النظام الغذائي في مساعدة مرضى السرطان على العلاج، لكنها فشلت في رهانها الكلي المتمثل في شفاء يوسف من مرض السرطان، والعودة لحياتهما الطبيعية، أما رهان الخطاب أو النص ككل فيكمن حصره في كون المحاولات الفردية لتغيير الواقع مآلها الفشل، مادام هناك قوة أكبر منه تخرب ما قام به، فلا يمكن لفرد مهما أوتي من ذكاء وعزيمة وإصرارا أن يغير واقع أمة مهما كان الواقع مأساويا وظالما، فالتضحيات يجب أن تكون جماعية لكي ينتصر الخير على الشر والحق على الباطل والعدل بدل الظلم والفساد.
رواية قاعة الانتظار تمثل نموذجا للرواية الهادفة والملتزمة بقضايا المجتمع، فالرواية في مجملها دعوة للتأمل في هذا الوحش الذي يهدد حياة المغاربة ويزهق أرواحهم كل يوم، كما تحضر داخل الرواية قضية المعاناة التي يتكبدها مرضى السرطان وأهلهم الذين يعانون معهم من قساوة انتظار الشفاء وما يصاحب ذلك من توتر، كيف ولا هم يرون من يحبون يبتلعون يوما بعد يوم في جوف السرطان، وما يزيد الطينة بلة ذلك الاستنزاف الذي تقوم به المصحات لأموال الضحايا وكذا الفساد الذي يعاني منه هذا القطاع، وهو مرض من نوع آخر يعاني منه الوطن، فالكاتبة كشفت عن واقع ظل مسكوتا عنه لفترة، خصوصا أنها كتبت انطلاقا من تجربتها الشخصية كما صرحت بذلك.
زكرياء طاهيري – سيدي قاسم
اترك تعليقا