ما القراءة؟ علامة استفهام مخيفة تلك التي تلي لفظة القراءة، ذلك أننا هنا نطرح السؤال الأول، سيما ونحن لا نتخذ إحدى المقاربات أو المناهج لنحصر جوابنا عن هذا السؤال في ثنايا مفاهيمه الإجرائية، إذ سنخلص إلى نظرية القراءة انطلاقا من القراءة نفسها، بمعنى انطلاقا من ممارسة فعل القراءة، وإن كان الأمر يبدو غريبا أن تقوم بفعل شيء – لا تدري حقيقته – قصد استنتاج ما هو، ومن ثم قلنا أن الأمر يبدو مخيفا ولا نبالغ، ولعل ما يزكي هذا الطرح أن موضوع مقالتنا هو نص ألف ليلة وليلة (الصياد والعفريت) بعيون عبد الفتاح كيليطو، وما دام الأمر كذلك ارتأينا أن نقف عند مسار القراءة التي خطها الأخير، على أن نسرد بعض ملامح جوابنا عن التساؤل الأول، حيث تبين لنا أن الأمر لن يحسم في هذا الورقة، بل يظل مفتوحا، على قراءات لا حد لها في المستقبل.
انطلق الناقد في تحليله من منطق الجوار؛ ونقصد به تلك المسافة بين القارئ والنص، حيث أثارها من زاوية جوار الليالي وقصصها في متن ألف ليلة وليلة، كانت هذه المجاورة الأولى، أما الثانية فتلك المتعلقة بمجاورة ألف ليلة وليلة والمقامة، وفي ثنايا هذا القول يصرح كيليطو أنه مضطر – مع عذر – إلى قطع رجلي النص، ولنا الآن أن نعلن عن أولى خصائص القراءة، وهي القطع، باعتباره مصير كل نص، حيث تفتح إذاك مسارات في القراءة وتسكت أخرى، وعليه تصير كل قراءة مجرد احتمال ضمن احتمالات لا نهائية، بتعبير أدق لا يمكن استنفاد النص من القراءات. هذه الفكرة ستفضي بنا إلى أخرى نؤجلها إلى آخر المقالة، لأنها في تقديرنا تلخص كل شيء. تحول كيليطو مباشرة بعد ذلك إلى الحديث عن بطل الحكاية؛ إلى البحث عن مدخل، وكان ذاك مدخله الأول، أما الثاني فهو اللغز الذي قاده للحفر في المتخيل البعيد في النص، ولك أن تستنتج بوضوح أن القراءة عنده لا تبدأ من مدخل. لنعد الآن إلى الأرقام التي تساءل عنها كيليطو، جعلنا ننتبه إلى عدم وجود شيء في النص بشكل عبثي، ومن ثم نضيف لما سبق أن القراءة هي البحث عن شيء لا يرى والاستدلال عليه، إذ على القارئ الانشغال – مستحضرا القارئ – بالإقناع أساسا، تماما كما فعل الناقد، إلى الآن وضعنا اللبنات الأولية لفعل القراءة، نحو القطع المحتم على كل نص، ثم فتح مسارات تمثل احتمالات للقراءة لابد لها من مداخل ترتسم بها خطة هذا الفعل الذي يتطلب استدلالا وتعليلا للإقناع به.
لنأخذ الآن منعطفا نحو سؤال سفانكس، لما نظر أو بالأحرى سمع كيليطو سؤالي الصياد، ارتمى إلى مسامعه من جديد صدى بعيد متعلق بأوديب، فعمل الناقد على استجلاء هذه التماثلات، والكشف عن ما تحجبه، من خلال عيون متعددة، لتطرح الآن سؤالنا من جديد، أكيد أنك ستصل مع كيليطو إلى أن القراءة استجلاء أصداء بعيدة في النص، ثم العمل على جعلها مسموعة، ولن تفعل إلا بتحولها إلى أصوات، والأمر الأخير يتطلب قارئا، وأي قارئ ذاك القادر على إسماعها؟ على الإقناع بها؟ هذا سؤال آخر لا حد له تتمنع الإجابة عنه اللحظة، لعلنا سنشير إلى بعض ملامحه في آخر المقالة، هكذا ننتهي الآن إلى تزكية قراءتنا المعروفة بوصفها خلق علاقات والاستدلال عليها طبعا، فلا فائدة من خلق علاقات بعيدة، تقول ما لا أو لم ليكن ليقوله النص، أو قصد أن يقوله صاحبه.
لنتأمل – بعد كل الذي وصلنا إليه – مسار القراءة الذي وضعه كيليطو، يبدو وكأنه يخبرنا بحقيقة أخيرة ثم ينتهي مع انتهاء تحليله، ونحن هنا نخص الحديث عن كون القراءة بناء، إذ من الصعوبة بما كان، أن يقنع الناقد برؤيته، لولا ذاك البناء المتين والتسلسل المحكم في عرض العلاقات واستخلاصها، ولما كان الأمر كذلك، احتاج البناء إلى وضع لبنة تلو أخرى مع اسفلت يجمع بينهما، وضعه البناء بعناية، ما نحاول قوله هنا ببساطة، لا قراءة بدون صبر، ذلك الصبر الذي يرافق القارئ خلال مصاحبته لمالك النص، حتى أضحى متساويا معه، ومشاركا إياه في تلك الملكية، حينئذ يكون أمام عتبة القراءة.
ختاما، لنعد إلى ما أخرنا الحديث عنه، ما وصفناه بالقول الجامع لكل ما ورد سابقا، فهو أمر لا مناص منه، إذا ما قمنا بكل من القطع وخلق علاقات إلى غير ما ذلك، الأمر هو أن النص الذي سنستنبته في هذه التربة الجديدة، لن يكون هو الذي انطلقنا منه، وعليه فالقراءة عموما، تأخذ ملمحها في الواقع عندما تتضح خطوطها العريضة، أي عندما يكف النص عن أن يكون على صورته الأولى، بهذا المعنى يكون القارئ بالمقابل، هو ذاك القادر على إنتاج نص آخر غير النص الأصلي.
زكرياء طاهيري – مدينة سيدي قاسم
– طالب باحث في ماستر التواصل وتحليل الخطاب.
أستاذ اللغة العربية بالسلك الثاني بثانوية أسية الوديع التأهيلية.
مولوع بالقراءة والمطالعة.
اترك تعليقا