ما هي التيوقراطية؟
ما هو اللاهوت السياسي؟
بداية صراع الإمبراطورية الرومانية مع المسيحيين.
نظرية الحق الالهي droit divin.
(مرحلة الاولى)
نظرية السيفين أو القوتين.
(مرحلة الثانية)
القديس اوغسيطينوس ومدينة الله.
تقديم
إن اختيار موضوع التيوقراطية البابوية والمشكلة اللاهوتية السياسية لم يكن اعتباطي بل هو راجع لعدة أسباب ولقيمته ايضا في فهم إرهاصات أولية للعصر الحديث وبداية ما يعرف اليوم بالحداثة..
فالحداثة لم تأتي من قوانين خارجية(الكوسموس-الوحي) بل أتت بدرجة أولى من الإرادة الإنسان نفسه، وقوته على الوقوف في وجه السلطة البابوية وفصل السلطة الدينية عن السلطة الدنيوية وتأسيس الدولة الحديثة قائمة اساساً على: التعاقد والحرية والمساواة واحترام الإنسان.
التيوقراطية theocracy تعني هذه الكلمة أو المصطلح على الحكم رجال الدين في الأمور الدنيوية وما يتعلق بالأمور السياسية، أي الحكم الديني وتنظيم المجتمع أو الأمة أو الشعب من خلال معتقد رباني.
ويرجع أصل هذه الكلمة إلى أصل اليوناني، فى ثيو تعني الدين وقراط تعني الحكم، وبناء على هذا فإن كلمة الثيوقراطية تدل على نظام الحكم الذي يقوم على حكم مؤسسة الدينية التي تستمد سلطتها من الإله مباشرة، بعتبر أن تعاليم الدينية هي أفضل ما يمكن تطبيقه أو استناد عليه، ونجد بعض الحكومات التي اعتمدت في بدايتها على الحكم الديني/الثيوقراطي منها:
– الصين التي أخذت من اباطرتها صفات وألقاب ذات طبيعة ألوهية جعلتهم مقدسين لفترة حكم مملكة شانغ.
– الإمبراطورية البيزنطية.
– فلورنسا الإيطالية خلال فترة حكم الراهب الدومينيكاني جيرولامو سافونارولا 1494-1498.
كما يجب أن ندرك اختلاف بين الثيوقراطية وقانون الديني، فى القانون الديني يشير إلى القوانين الأخلاقية والأدبية التي تدرسها التقاليد الدينية على سبيل ذكر القانون الكنسي المسيحي وكذلك الشريعة الإسلامية، بإضافة إلى الهلاخا اليهودية والقانون الهندوسي.
كما يجب إدراك الفرق بين دين الدولة وبين الكنيسة القائمة والذي هي هيئة دينية متعددة رسميا من قبل الدولة.
بينما الثيوقراطية هي شكل من أشكال الحكومة التي يتم فيها الاعتراف مبدئياً بالله أو الإله باعتباره الحاكم المدني الأعلى ويجب تطبيق ما في كتبه من الأحكام ووصايات.
اللاهوت السياسي Théologie politique يقع هذا المفهوم بين العلوم السياسية والمفاهيم اللاهوتية وغالباً مايتم ربط هذا المفهوم بالمسيحية.
وقد تبلور هذا المفهوم بشكل كبير في العصر الوسيط حيث كان يجمع بين الاعتقاد الديني وتنظيم السياسي.
بداية صراع الإمبراطورية الرومانية مع المسيحيين:
لقد بدأت مشكلة اللاهوتية السياسية وصعود التيوقراطية البابوية بعد سقوط الإمبراطورية الرومانية بشكل مباشر وتم اعتماد الدين المسيحي كالدين رسمي لدولة البيزنطية، ولكن قبل سقوط الإمبراطورية كانت هناك مشكلة أخرى وهي صراعات الداخلية مع المسيحيين، فهناك من يقول إن سبب سقوط الإمبراطورية الرومانية هو تبني الدين المسيحي وسيتم اعتبار هذا سبب من أسباب الداخلية لسقوط الإمبراطورية الرومانية (سنرى رد القديس اوغسيطينوس في ذلك).
اسباب اضطهاد الإمبراطورية الرومانية للمسيحية.
تعددت أسباب اضطهاد التي مارسته الدولة الرومانية في حق المسيحيين الأوائل وبهذا سنذكر بعض من هذه أسباب:
مشكلة الأولى، كانت في منح دولة الرومانية حق للنصرانية في عبادة معتقداتهم بعتبر أن المسيحية هي امتداد واستمرار لليهودية، فعندما رفضوا المسيحيين تقديم الولاء الآلهة الرومانية مع بعض الطقوس متمثلة في زيارة وتقديم الهدايا والبخور، بدئت الدولة الرومانية ترى ذلك كنوع من رفض وعدم الخنوع لمقتضيات سياسة الإمبراطورية.
مشكلة الثانية، وهي سرعة انتشار المسيحية التي بدأت من بلاد فلسطين وكذلك سوريا وآسيا الصغرى، بحيث لاحظت الإمبراطورية الرومانية أن المسيحية اكتسبت شعبية أكثر مما اكتسبتها اليهودية وكان ذلك راجع لتعديلات والمبادئ التي قدمها القديس بولس.
مشكلة الثالثة، تكمن في مبادئ العقيدة المسيحية التي تقوم على الخلاص و أن هذه دنيا ما هي إلا امتحان يمتحن فيها الإنسان و لا ينبغي أن يشتغل بالأمور دنيوية و سياسية لكي لا يعود إلى الخطيئة الأولى، و هذا ما أدى إلى تعارض التام مع ركائز الإمبراطورية التي ترى أن الأمور السياسية هي التي تطور الدولة و تكسبها نفوذ، كما لم يقبل المسيحيين في مشاركة العسكرية بعتبرها تساهم في اقتتال النفوس و ان ذلك يشكل خطر على البشرية، فكان هذا ايضا تعارض كلي مع الإمبراطورية التي تعتبر جانب العسكري هو ضامن الوحيد في توسع و انتشار القوة الإمبراطورية.
مشكلة الرابعة، وهي دعوة المسيحية إلى المساواة بين الأفراد شيء الذي كان يناقض الإمبراطورية الرومانية التي تقسم المجتمع إلى طبقات، وعلى هذه أسباب اعتبرت الإمبراطورية أن الإجتماعات التي تنظمها الجماعات المسيحية تهدد الدولة، وقد شنت على أساسها حملات الاضطهاد ضدهم، وكان مسؤول عن هذه العمليات الاضطهاد الحاكم نيرون وحكام آخرون مسؤوليتهم تطبيق قوانين مثل تراجان وهادريان.
كانت المسيحية قد أصبحت دين للدولة الرومانية قبل سقوط الإمبراطورية الرومانية وذلك في سنة 390 اي قبل سقوطها ولكن مع صعود الدولة البيزنطية ستصبح المسيحية دين رسمي وله شعبية كبيرة واتباع تقدر بالحشوذ، كما ستكون للراهبان والآباء الكنيسة السلطة في تأثير و كذلك على اختيار القرار، كما سيتم تقويض بعض النصوص المقدسة لأجل الحكم و هو ما سيعرف فيما بعد بنظرية الحق الالهي و نظرية السيفين.
نظرية الحق الالهي Droit divin:
نظرية الحق الالهي أو حق الملوك الإلهي، هذا المفهوم يدل على ما هو سياسي وديني، بحيث يفيد أن الله يعين الملوك مباشرة للحكم وتسير شؤون الدنيا من خلال قوانين الالهية، وبالتالي فإن الحاكم أو الملك الذي سيحكم على الأمة معينة يستمد قوته وسلطاته من ما هو ديني الإلهي.
ويعود الأصل لهذا المفهوم إلى احدى القصص التي وجدت في سفر صموئيل الأول، وتقول هذه القصة أن الرسول صموئيل شاول كان ملك على إسرائيل وبعده داوود.
كما نجد ايضا بعض النصوص الدينية التي تم استعملها في استخدام هذا المفهوم رسالة بولس الرسول إلى أهل رومية حيث يقول ” لتخضع كل نفس للسلاطين الفائقة، لأنه ليس سلطان إلا من الله و السلاطين الكائنة هي مرتبة من الله، حتى إن من يقاوم السلطان يقاوم ترتيب الله و المقاومون سيأخدون لأنفسهم، دينونة، فإن الحكام ليسوا خوفا للأعمال الصالحة بل للشريرة، أفتريد أن لا تخاف السلطان، إفعل الصلاح فيكون لك مدح منه لأنه خادم الله للصلاح و لكن إن فعلت الشر فخف لأنه لا يحمل السيف عبثا إذ هو خادم الله منتقم للغضب من الذي يفعل الشر “.
بدأ استغلال هذا النص بعد اعتناق قسطنطين الأول المسيحية، بحيت اعتبر الملوك عموما ايضا مختارين من عند الله لتطبيق شريعته، و قد سادت نظرية الحق الالهي في مرحلة الأولى على أيدي القديسين الأوائل، في البداية دعت المسيحية للطاعة الحاكم و اعتبرت أن عصيان الحاكم هو عصيان اللاله، تحت شعار ” دعوا ما لقيصر لقيصر و ما لله لله “، و هكذا إذن بدأت نظرية الحق الالهي في تأسيس شيئا فشيئا، و بهذا سيتم نشؤ قوتين أو سلطتين قائمتين، الأولى تقوم على ما هو ديني بحيث من اختصاصها تطهير الروح و الثانية تقوم بتنظيم المجتمع بعتبرها الجسم الإنسان و يحتاج إلى نظام يكون فيه العدل، و هذا ما سيعرف بالنظرية السيفين أو القوتين.
مرحلة الثانية هي المرحلة التي سادت فيها نظرية السيفين أو القوتين في نهاية القرن الخامس التي بشر بها البابا (جلاسيوس الاول) و التي تقوم على تكريس مبدأ سيادة كل من السلطة الروحية (الكنيسة) و السلطة الدنيوية (الحاكم)، و تحديد اختصاصات كل منها في إطار المشاركة و التعاون، بحيث ليس هناك قوة واحدة تحدد قوانين المجتمع و تنظيمه بل هناك قوتين و سلطتين مندمجتين في ما بينهم لتسير الدولة و الشعب، و بالتالي لم يبقى شعار النظرية الحق الالهي ما لقيصر لقيصر و ما لله لله، بل أصبح الله في موجهة الإنسان، و قد أصبحت هذه نظرية تقليدا مقبولاً حتى في العصر الوسيط.
القديس اوغسيطينوس أو اوغسيطن
Saint Augustin 430-345
هو مفكر و لاهوتي من أصول جزائرية، ولد في طاغاست، و يعد من آباء الفكر الكنسي و اعمادة المسيحية التي أعاد بناء و صقل بعض المفاهيم التي تقوم عليهم المسيحية، اوغسيطن في بداية لم يكن مسيحي بل صال وجال بين مانوية و الغنوصية ثم الافلاطونية و بعدها دخل للمسيحية بعتبر أن المسيحية هي شفاء الإنسان و خلاصه روحي، و لا ننسى ان اوغسيطن قد واجه مشكلة كبيرة استعصت عليه و لم يجب لها الحل إلا في الدين المسيحي و هي مشكلة الشر. من بين مؤلفات القديس اوغسيطينوس نجد اقدم مؤلف له و هو الرد على الأكاديميين contra academos الذي كتبه سنة 386، و هذا الكتاب هو صراع فكري طويل مع مذهب الشكاك، ثم نجد كتاب آخر له و هو الحياة السعيدة Devita beata ثم كتاب خلود النفس soilioquia، ثم كتاب الاعترافات سنة 400 و هذا كتاب يعتبر من أهم كتبه، بحيث يتحدث اوغسيطن عن حياته بلمحة أدبية و شعرية، ثم نجد كتاب آخر و هو الثالوث De trinitate ما بين 400- 401. ثم كتاب مدينة الله De civitate dei كتبه بين عام 413-426 و هو الذي يعتبر العمدة في كتابات اوغسيطينوس، حيث يعرض مفاهيمه اللاهوتية، و هذا هو ما يهمنا هنا في هذا البحث.
يتكون الكتاب من 22 فصل و جاء كتاب مدينة الله رداً على الوثنين الذين قالوا أن سقوط الإمبراطورية الرومانية هو رد فعل غاضبة من الإله الشعب الذي ترك عبادة الآلهة الوثنية و اعتنقوا المسيحية، و يحاول اوغسيطن هنا رد على هؤلاء الذين وجهوا نقض للمسيحية.
قلنا فيما سبق أن اوغسيطينوس كان همه الوحيد هو دفاع عن معتقده المسيحي، و بالتالي فإن كتاب مدينة الله يصعب إدراجه في الفلسفة السياسية، بحكم طبيعته و حمولته دينية و هذا نجده واضح في مواجهة الآراء الوثنية، لكن ما يميز هذا الكتاب هو تمييز جوهري الذي وضعه اوغسيطن بين مدينة البشر تحكمها مصالح الشخصية و النفوذ في مقابل نجد مدينة الله، مدينة العدل و السلام و الخلود، خالية من كل صراع أو مصالح و الاقتتال الذي عرفته مدينة البشر (روما)، ثم نجد تمييز آخر حتى فى زمان، فى زمان البشري ليس هو الزمان الإلهي، و هذا كان جواب صريح على الوثنين الذين قالوا لماذا لا يتدخل المسيح في تخليص المؤمنين أو أتباعه، و هو نقاش في معضلة الشر، يقدم اوغسيطينوس هذا تمييز الذي لا يمكن إدراكه بالعقل واحده و إنما نحتاج إلى الإيمان بما هو متعالي، فى الله أو الإله لا ينبغي أن يتدخل في هذه الامور من أجل قلب كفة لصالح المؤمنين أو غير مؤمنين. قد يكون هذا تمييز الذي وضعه اوغسيطينوس بين مدينة الالهية و مدينة البشرية هو أكبر دليل على أن الأمور السياسية يجب ان تبتعد عن الامور دينية و أن السياسة و الدين لا يمكن أن يلتقي هكذا و بالتالي يجب فصل بين ما هو الديني و ما هو السياسي، فى حتى مسألة الإيمان هي تدخل في حرية الشخصية للفرد و لا يجب تعميمها على باقي الأفراد ما ينبغي تعميمه على باقي الأفراد هو المساواة و العدل و الاحترام الإنسان بما هو الإنسان.
قائمة المراجع :
(تاتاركيفتش) فوادسواف، فلسفة العصور الوسطى، ترجمة محمد عثمان مكي العجيل، جزء خاص بالقديس اوغسيطن، ص، 70-93.
(تشادوك) هنري، اوغسيطينوس:مقدمة قصيرة جدا، فصل التاسع، مدينة الله. ترجمة احمد محمد الروبي. مراجعة هاني فتحي سليمان.
(كرم) يوسف، تاريخ الفلسفة الأوربية في العصر الوسيط.
زكرياء الساسي – مدينة القنيطرة
طالب باحث في الشعبة الفلسفة بجامعة ابن طفيل بالمغرب
جميل صديقي واصل?