لا حديث عن مدينة هجرها المبدعون، ولا خير في إبداع ، شعرا كان أو نثرا ، يظل بعيدا كل البعد عن الحياة والعيش والكتابة . ولا علاقة للخيال الأدبي دون ارتباطه بالمكان سواء كان مدينة أو قرية أو مسقط الصرخة الأولى ؛ بما هو ـ أي المكان ـ ملهم روحي وحقيقي لأريج الإبداع . هل المدينة للشعراء أم للروائيين والقصاصين ؟ وكيف أصبحت المدينة تتنفس عطر الكتابة الساخن ؟ وأخيرا ، من أين يستمد الكاتب والشاعر طاقاته الإبداعية ؛ لتصبح المدينة موضوعا هدارا بالأدب؟
المدينة في الأدب تعني التعدد ؛ لأنها زاخرة بثقافات وعادات ، تعكس فسيفساء روح الإبداع . ففضلا عن ارتباط الكتاب والأدباء بالمكان ، إلا أن المدينة ، كمفهوم ، تنزلق وراء إيحاءات تعبيرية ورمزية شديدة الارتباط بعوالم فوقية أو سفلية للأدب . فهناك من ربطها بالحرية و العصرنة والتقدم ، وهناك من جعلها مأوى للمهمشين والمضطهدين والمطرودين من المجتمع ، بل هناك من ربطها بالسجن والأصفاد والمحاكمات غير العادلة ، في حين نجدها أيضا مقبرة لأحلام وردية .
من بين الأمكنة الساحرة ، والمرتبة ضمن قائمة أسطورة الحكايات العجيبة ، الطافحة والمسجورة بالخيال المسحور ، نجد مدن ألف ليلة وليلة المتراوحة بين دمشق وبغداد ؛ مدينتا المرح والغناء والرقص . بينما البصرة والقاهرة مدينتا السطوة الثقافية والمعرفية ، حيث تعجان بالحكايات المرحة عن الشطارية والمشعوذين والحيل والمكر والخداع الكائن بين الباعة والمشترين في الأسواق والساحات العمومية ، بما هي تدنو شديدا من مدن المقامات ، عند الهمذاني والحريري ، في التراث العربي القديم .
بيـْد أننا نجد ، في هذا المقام ، مدنا أخرى ارتبطت في تاريخ الأدب بكتاب عالميين مشهورين، فبقدر ما ذاع صيتهم الأدبي ، بقدر ما فاح عبير عطر مدنهم وقراهم التي ترددوا عليها . فلسفيا ، كانت مدينة أفلاطون الفاضلة منبعا لا ينضب له معين من الحكمة ، في حين نجد سانت بترسبورغ مدينة الحلم ، التي احتضنت أهم روائع فيودور دوستويفسكي ” الجريمة والعقاب ” . وعلى غرار ذلك ، فبين عزبة ياسيانا بوليانا ومدينة كازان على ضفاف الفولكا ، كانت الهجرة التي تخلى بموجبها ليو تولستوي ، عن جذوره وتاريخه الفكري والنضالي لصالح الفقراء والمعوزين . فكان كتابه ” السيد والخادم ” تتويجا مستحقا لمسار طويل من الإبداع ، حيث حلت المملكة بزخمها المعرفي وتساؤلات تستعصي عن الحل ؛ من قبيل : كيف يعرف الوقت المناسب لكل عمل ؟ فلولا المدينة ، باختلاف حرفها ونشاطاتها المهنية ، لما تمكن الملك من الحصول على جواب شاف ، حيث اختلف على مجلسه وجهاء ومهنيون ؛ أطباء وجنود وسحرة وقساوسة وحكماء وغيرهم … ليقرعوا له الخبر اليقين .
في عالم الخيال والجنون عنت من وراء غيم كثيف في ” الورق الجاف ” اسم ” ماكوندو ” ؛ القرية التي ألهمت غابرييل غارسيا ماركيز في ” مئة عام من العزلة ” ، بل تعدت كل أعراف الإبداع ، واستوطنت جُل أعماله القصصية والروائية . يقول في الرواية ” كانت ماكوندو يومئذ قرية من حوالي عشرين بيتا من الغضار والقصب ، بنيت على حافة جدول ينساب ماؤه الشفاف في مجرى حجارة ملساء بيضاء كبيرة كبيض من قبل التاريخ ” . في هذا المقام المجلل بالعظمة ، كان البحث جار عن أصول هذا الإلهام النازل ، كالبرق ، من السماء إلى الأرض ؛ والذي ارتبط بإبداعات ماركيز . فمن النقاد من يربط اسم ماكوندو بمجاهل كولومبيا ومساحيقها البراقة ، ومنهم من سافر بها في عوالم الفكر والثقافة ، واعتبر ماكوندو حالة من الحقيقة الفكرية .
في الأدب المغربي ، عندما كنت أعيد قراءة رواية ” المعلم علي ” لعبد الكريم غلاب ، أجد نفسي أتمرغ في تراب مدينة فاس، بل أتنفس لظى لهيبها الساخن ، وهي تلملم أثوابها القديمة ، وصناعاتها التقليدية العتيقة . فاس بوجلود ، ودار الدبغ تواصل حميمي بين الكاتب والأمكنة ، يقول غلاب : ” وقف علي سطح دار الدبغ تحت شمس صيف فاس المحرقة ينتشر الجلود على بلاط السطح . قوى قدميه لفح الشمس بناره فلم يسعه أن يضع قدميه على الأرض …” .
بناء فاس ، من بناء التاريخ والحضارة التي عمرت قرونا من العطاء الفكري والديني ، ومحجا حقيقيا لطلبة العلم والحديث . وبذلك ، لا تغدو أن تكون فاس مدخلا لإحياء التراث الديني والشعبي فحسب ، وإنما إشعاع روحي يخترق كل أطياف عبر التاريخ الإنساني . ويأتي موسم ” مولاي إدريس ” ليوطد هذه العلاقة التي تربط بين الإنسان والمكان . في هذا التساكن الحميمي تحافظ ، من خلاله ، فاس على أصالتها وعاداتها وتقاليدها ، وذلك عبر نقل هذه الأصوليات إلى الأجيال القادمة ، من أجل خلق هوية متمنعة وصلبة أمام عوادي الزمان . كما أن للصناعة التقليدية في فاس حلما يضاهي باقي الصناعات العتيقة التي تغزو العالم ، وتجيء المحافظة على التراث ؛ القفطان الفاسي والشربيل والحناء الفاسية ، علاوة على أيقونة الزليج والرخام ، كدليل قوة ألهمت العديد من الشعراء المغاربة ، وفي مقدمتهم الشاعر المغربي محمد بنيس .
من بين المدن الأخرى المغربية ، التي صنعت أسطورتها من داخل الأجناس الأدبية ، نجد طنجة فجسدها من جسد الكاتب العالمي محمد شكري ، علاوة على تينسي وليامز وبول بولز و كابوتي . بينما تطوان تلك الحمامة البيضاء القابعة على ضفاف البحر الأبيض المتوسط ، ارتبطت بالأديب المغربي الكبير المرحوم محمد أنقار من خلال عمله الرائد ” المصري ” و القاص محمد الخضير الريسوني من خلال مجاميعه القصصية ” أفراح ودموع ” و ” ربيع الحياة ” وغيرها من القصص المنشورة في الصحف الوطنية ، والتي تلهج كلها بالحياة التطوانية .
فمن الواضح أن محمد أنقار ، في رواية ” المصري ” ، كان فنانا تشكيليا بكل المقاييس في تأثيث ورسم فضاءات تطوان ، والتي راوحها بين مدينة العيون والزوايا والمساجد والأبواب السبعة ، لينتصر من خلال بطل الرواية أحمد الساحلي ، إلى التقسيم الرباعي للمدينة ، وهو : حومة البلد ، والطرانكات ، والسويقة والعيون . بما هي أفضية تحافظ على عتاقة المدينة ، وعلى جذورها التاريخية الضاربة في عمق الأندلس .
وحتى لا يبقى المكان بدون أصول وبدون هوية ، يفاجئنا الروائي والشاعر محمد الأشعري برواية ” جنوب الروح ” ليبحث في الوجوه والعابرين والموتى والمقابر والحيطان عن مدينة زرهون . من خلال الجد الأكبر محمد الفرسيوي ، وحكاياته في الحلقة.
من خلال هذا العرض البسيط للمدينة ، وعلاقتها بالأجناس الأدبية ، يتضح أنه موضوع شاسع الأطراف ومتشبع الزوايا . فحيثما وجد السرد إلا وكان الفضاء ضمن القوى الفاعلة في النص ، بل يستطيع أن يفعل الكثير بحميميته ، وعلاقته الروحانية بالشخوص التي تتردد عليه . فأيا كان موضوع الإبداع فإن للفضاء سطوة يعكس الرؤى والأحلام ، بل يساعد ، أيضا ، على إضاءة جوانب من شخصيات النص .
رشيد سكري – مدينة الخميسات
اترك تعليقا