بات من الواضح جدا أن الفلسفة عين العقل على الكون والوجود . وفي هذا ذهب أفلاطون إلى إبعاد الشعراء ، ونفيهم في النسيان والتيه ، فتجاوز بذلك أزمة حادة كادت أن تعصف بمدينته الفاضلة . أ يمكن اعتبار هذا الكائن ، ذي الوجود المتعدد ، يتراوح بين الوجود ونفي الوجود ؟ هل المتخيل يناقض العقل أم يكمل دورته الوجودية ؟ بعبارة أخرى هل الوجود الاعتباري للإنسان قادر على أن يتجاوز الحلم والصورة والأسطورة وكل الرموز والإشارات ؟ هل بالعقل وحده يعيش الإنسان ؟
إن إبعاد المتخيل الرمزي ، الذي شوش على الفكر والعقل معا ، كما يقول ديكارت ، خلق من إبداع الصور والرموز والإشارات عالما من الغموض والإبهام ؛ ليظل الهوس قائما على مستوى استكمال الإنسان إنسانيته و آدميته . في هذا المنحى ، الشائك ، تنطلق المخيلة المجنحة إلى عوالم الحس والصور والتخييل ، حيث انفلتت ـ أي المخيلة ـ من عقال العقل ؛ لتجد نفسها تتمرغ في التصوير البلاغي . بالموازاة مع ذلك ، ومنذ الخليقة الأولى ، تحتل الصورة المتخيل الإنساني ، فهي تسير في تواز مع العقل والفكر ، فعندما أراد إبليس أن يغوي آدم ، ويطرده الله من الجنة ، صوره على شكل ملك ، وبه اتسعت دائرة الرؤية والتخييل والحلم .
فالنسق المدرك ، من الصور التي تتركز في الذاكرة ، مصدره تخييلي منبثق من اللغة الإيحائية ، التي تعمل على تثوير المخيلة ، بمجموعة من الصور المستحدثة . وبهذا تأتي الاستعارة والتشبيه والمجاز في مقدمة العناصر ، التي تتفاعل معها الذاكرة ، إلى جانب تفاعلها مع الحمولة الفكرية للقارئ المفترض . فالتفاعل الناجح ، والذي يطأ منتهاه ، هو الذي ينسج صورا قريبة من الواقع ، ويحياها المتلقي . بيد أن الاستعارة لا تتحدد إلا عبر هذا الواقع ، إلا عبر مصفاة التمثيل و المحاكاة الأرسطية ، التي خلقت من العالم موضوعا لصور تتجدد باستمرار عبر الزمن . فالمحاكاة نظرية نعيش بها ومعها في كل وقت وحين ، والمماثلة جزء لا يتجزأ من بناء ذي نسق قياسي واستعاري ، يوفر الرؤية والحلم ، ومن ثم فالاستعارة تحويل و تغيير مسار معرفي وفكري في اتجاه توليد المعرفة و العلم .
فعلى أي أساس يتم التفريق بين العقل و التخييل ؟
إن الذكاء التجريبي الأرسطي ، يتمأسس على الملاحظة الدقيقة ، التي تشمل الصورة كمحطة أساسية في توليد الفكر المعرفة ، ومنه تشرعن التداخل بدون شروط مسبقة بين المخيلة وملكات العقل والذهن . فالتعلمات سواء كانت عقلية أو حسية ، نتيجة المخيلة ، كان ينظر إليها بوازع التواصل ، مادام الكائن الإنساني بحاجة مستمرة إلى الآخر . فجل الأنشطة سواء كانت مصدرها فلسفي أو إبداعي ، تطمح إلى تغيير نمط العيش والكتابة ، ومع ابتكارات الحداثة هيمنت الصورة على الوجود الإنساني برمته ؛ فأصبح الإنسان أكثر تواصلا من ذي قبل .
فما تنتجه المخيلة من صور جراء اكتشاف الفوتوغرافيات ، واستحداث صور عملاقة مبثوثة في القاعات السينمائية ، وفي الشوارع ما هو إلا ثورة صريحة على صرامة العقل ، وإزاحته إلى منطقة الظل ؛ وبهذا فالمتخيل قادر على السطو ، بذكاء خاص ، على كل الأنشطة التي يباشرها الإنسان . فهذا يجرنا الحديث إلى طبيعة الكتابة و الإبداع ، التي هي عبارة عن تفاعل قائم بين العقل و التخييل أو بين العقل والحس ، فلا يخلو الإبداع من واجهة التصوير ، واستحداث خلفيات شيماتية للسرد .
فاللغة ، عند بول ريكور ، صور تسافر خببا في المتخيل ، أو كما يسميها ب” الممارسات المتخيلة ” التي تجسر بين الصورة واللغة . فمهما تنازلت ، هذه الأخير، عن كبريائها المتمثل في الوصف والسرد والتقرير ، فهي حسب ريكور ، لن تبرح الأيديولوجيا ، من زاوية المفاضلة بين الواقع والخيال . إن المتخيل يعج بالنسق الأيديولوجي ، الذي ينزاح عن الوظيفة ، التي من أجلها جاء الأدب . فالفن يعالجه الفن ، ويذهب به إلى الأقاصي والنهايات ، بيد أن هذه القناعة تتبدد عند عتبات الإبداع الذي يرى في الكلمة سلاحا ، يؤمن يؤم\العبور من زمن إلى زمن ، ومن واقع إلى واقع آخر … وهذا ما دأب عليه الفكر الإنساني منذ فجر التاريخ .
المتخيل ، إذن ، ينتصر إلى التغيير في رحاب ألفة وهدنة مع واقع ، يرى فيه الكاتب بحاجة إلى التغيير ، وذلك من خلال نصوص تستعير التصوير بهدف تعرية واقع ، قد يكون موبوءا . فالواقع يتمركز في المخيلة على شكل صور ثابتة أو متحولة ، هذا ما دأبت عليه فلسفة الأنوار ، التي جمعت بين الذات ونقد الذات ، وإعادة الاعتبار للمتخيل . إن إبعاد العقلانية الديكارتية ، فسحت المجال إلى اقتحام المجهول وغير المنتظر من أشكال تعبيرية في الأدب ، جاعلة من المتخيل أساس الإبداع . فالسينما واحدة من المجالات التي اقتحمها الأدب بمخيلة تحاول الربط بين الصورة الفوتوغرافية المتحركة والصورة اللغوية ، التي تعمل جاهدة على بلورة أسلوبها في التلقي ، وما تم نقله من الأعمال السردية لنجيب محفوظ إلى مجال السينما ، أكبر دليل على أن الصورة اللغوية لها خلفية عميقة تعمل على تحريك مخيلة المخرجين السينمائيين .
وارتباطا بما سبق ، يقول الشاعر الأمريكي عزرا باوند ” إن العمل الفني المثمر حقا ، هو ذلك الذي يحتاج تفسيره إلى مائة عمل من جنس أدبي آخر . والعمل الذي يضم مجموعة مختارة من الصور و الرسوم هو نواة مائة قصيدة ” . فما جاء به باوند ، وهو الخبير بآداب وثقافات الأمم العالمية ، إشارة واضحة إلى أن الصورة تكون نواة حقيقية للإبداع سواء كان نثرا أو شعرا ، وعندما نذكر الصورة ، عند الشاعر الأمريكي ، نذكر معها المخيلة اليقظة ، التي تربط بين الدال والمدلول . وهذا ينطبق أيضا على الموسيقى التي تحفز المخيلة دائما باستحضار الصور ، التي اقترنت بها ـ أي بالموسيقى ـ .
فالوعي بقيمة الترابط بين المخيلة المنتجة للمعرفة و المحيط الخارجي يعيد إلى الأذهان منطق المثالية الديكارتية ، التي تجزم بوجود العالم الخارجي المدرك على شكل صور ثابتة أو متحركة . لهذا فإن نفي الصورة هو نفي للوجود ، والدخول في العدم ، بحسب المنهج التجريبي ، الذي يومن بالإدراكات الحسية للأشياء . فالوجود بهذا المعنى يتجاوز منطق الديكارتي ؛ ليجد نفسه في أحضان الوعي السارتري نسبة إلى جون بول سارتر ، الذي يخلق من الصورة ذلك التنظيم التركيبي الكلي للوعي . فإعمال الفكر في معالجة القضايا التي تمس الوجود والكينونة الإنسانية ، هو انتصار صريح لإنسان يشكل لحمة بين الحقيقة و الخيال ، أو بين العقل والتخييل ، أو بين الوجود ونفي الوجود .
رشيد سكري – مدينة الخميسات
اترك تعليقا