كنت أشفق على هذا الأسير ، ذي العينين الزرقاوين ؛ المكبَّل بالأصفاد و الأغلال . من بين الوثائق السريَّة ، التي حملها جهازُ الاستعلامات الفرنسي إلى مكتبي ؛ ملفه الجدير بالاهتمام ، بل إنه من المهم و الواجب أن نعرف كيف وصل إلينا ها هنا … الآن ؟
لاحظ يرسف في لباس جندي مجهول . له ذؤابة كعش طائر الحوم ، حذاؤه العسكري ، بدون شك ، غنمه من فيلقنا الجرار الذي أخفق في مهمة ” الضربة الموجعة ” ، التي أسندت إليه في السَّنة الماضية .
لم أتوان في الأمر ؛ فكوا أغلاله و أصفاده ، التي تشل له الحركة .
صحت في الضباط :
ـ فكوا أسره . أصابهم الذعر و الحيرة و التلكؤ.
ـ نفذوا ما أقول لكم ، وعلى وجه السرعة .
شقشقة الأصفاد تفتح له عهدا جديدا بالحرية . فكرت مليا وقلت : إن صاحب العينين الزرقاوين سيكون دليل تحركنا في القادم من الأيام في ربوع الاتحادية ؛ وثيقة ناطقة شاهدة بين أيدينا نفيسة وغالية .
المستشرق ميشال لوبغي صحيح أنه قرأ العديد من المذكرات التاريخية القديمة والحديثة من تاريخ منطقة زمور ، ونهم من مختلف الترجمات ، التي تنفست حياة الاتحادية ، وتمكن من معرفة أهم النقط الحمئة التي تزعجنا طيلة هذه السنين الطويلة . إن تزويد الاستعلامات بهذه المعلومات من بطون المخطوطات و المترجمات غالبا ما تكون خاطئة وغير مجدية ، لا علاقة لها بالواقع و الميدان ؛ وهذا سبب مباشر في فشلنا الذريع ؛ لبسط الهيمنة المطلقة على قبائل اتحادية زمور. غير أن الخروج إلى الميدان و معاينة الشيوخ و الأعيان والوجهاء ، ونهج سياسة المُلاينة ستكون لها نتائجُ أفضلُ من السابق .
ميشال لوبغي وجد على مكتبه صبيحة يوم 22 أكتوبر 1937 مذكرة أحد رموز حركة اتحادية زمور، يقول فيها :
” تطالب الاتحادية بتطبيق الشرع الإسلامي ، وإعلاء كلمة الحق في وجه التبشير، الذي يعصف بالهويَّة الدينية لقبائل زمور . وأن إقامة قداس الكاثوليك في كنيسة القديسة سانت تيريزا بالخميسات ، سيفتح نار جهنم , ولن يهدأ أُوارها ، إلا بعدما تأكل الأخضر واليابس”. أربكت هذه المذكرة المساعي ، التي يطمح إليها المرشال لوسي ، صاحب فكرة القوة الناعمة . فكثف اتصالاته مع كل الجهات الرسمية الراعية لهذا الاحتلال ، تفاديا للمواجهة مع خلايا المقاومة ، التي كان يعتبرها آنئذ المارشال لوسي نائمة فوق بساط من ريش النعام .
استقر ذو العينين الزرقاوين في بيت مهجور وسط مزرعة بني عمر ، إحدى قبائل الاتحادية التابعة لقبائل زمور . في الجهة الشمالية ، وعلى مد البصر ، أشجار الرمَّان والحامض البلدي . أما في الجهة الغربيَّة مساحات خضراءُ للدلاع والبطيخ الأصفر فاتح اللون . تربة المزرعة رمليَّة تعيق التنقل عليها بالسُّرعة المطلوبة ، وفي قلبها بئرٌ لها أفريزٌ من الديماتيت الأرجوانيِّ المموج . وبجانبها عريش تحته مضخة كبيرة ، يظهر أنها تستعمل في جلب مياه الشرب والسقي معا . وخلف البيت ؛ إسطبل كبير فارع السقف ، له طاقات من كل جوانبه ، يربض فيه كل أنواع الخيول العربيّة وغير العربيّة . لا يظهر منها سوى غاربُها الملفوف في شعرها السابغ ، الذي تشرئبُّ به من على أبواب الإسطبل القصيرة .
اكتشف ذو العينين الزرقاوين المزرعة ، التي حل بها بعد الأسر ، وبعدما فكت أغلاله ؛ قال في قرارة نفسه :
ـ إنها مزرعة الفرنسيس .
على عدة أمتار من المزرعة ، وفي الجهة الجنوبية ، عمود كهربائي رباعي الدعامات ، في بنائه الهندسي يشبه إلى حد كبير برج إيفل ، يشق العنان بسموقه الذي يذبح به الغيوم ، وعلى قـُنَّته تسنَّم مصباحٌ يشع منه نورٌ أحمرُ . وفي الجهة المقابلة ، وعلى مد البصر ، سياج للأسلاك الشائكة الممغنطة ، الممتدة إلى حدود وادي المكرن ؛ الذي يفصل بين الخزازنة وآيت عبو. محمية طبيعية لمختلف الحيوانات النادرة ، التي أشرفت على الانقراض .
أما في الجهة الشرقية ؛ برارٍ لمختلف سلالات الأبقار ، تنتج لا محالة لحما وحليبا و ألبانا وجميع مشتقاته . اهتدى ذو العينين الزرقاوين إلى هذه النتيجة انطلاقا من تلونات روث الأبقار ، التي تراكمت تحت أشعة الشمس الحارقة ، و روائحها العطنة ، التي تستجلب حشرات مميزة . حملته قدماه إلى حيث صوت الخوار يرتفع ، ورائحة الروث يعبق بها المكان ، إذا به فوجئ بآدمي طاعن في السن يرتدي جلبابا أدرنَ ، ذا عروة وحيدة خلف الظهر ، تعن منها عظام فقرات ناتئة وبارزة ؛ جسده النَّحيف يشي بأنه عامل سابق في المزرعة . دنا منه ذو العينين الزرقاوين دنوّا حذرا ، ودون أن يرفع عيناه ، قال :
ـ أكيد ، العامل الجديد عند الإقطاعي شوفاليي .
لأول مرة سقط اسم شوفاليي على طبلة أذني ، كان إحساسا غريبا ، وأنا أربط بين الصورتين ، اللتين تبادرتا إلى ذهني الشارد دفعة واحدة ؛ أمامي الرجل الطاعن في السن وشوفاليي الذي يزور المزرعة على قائمة عسس مدجَّج بالأسلحة .
أجبته ، وأنا ساهم في حالته البئيسة ، قلت :
ـ حوكمت ، وعلقوا الحكم مقابل اشتغالي بإحدى مزارع الفرنسيس .
قال الطاعن في السن : إن حكايتي تبتدئ من الحدود الفاصلة بين المغرب و جنوب الصحراء ، حينما اجتاحت جحافل عسكر مدججين بمختلف أنواع الأسلحة ، مداشر وقرى الجنوب . حجزوا الممتلكات ، ونصبوا خيما للشيوخ و النساء و الأطفال ، فأصبحوا لاجئين على مرمى حجر من قراهم . بعد أربعة أشهر من الاحتجاز ، ركنوا بالقرب من المخيم حافلات نقل الجند ، فانطلقت المأساة الحقيقية ؛ نساء ينتفضن كالدجاج المذبوح ، يتوسلن ويتمسحن بأحذية الجند الغليظة ذات الجزمات الفارعة ، عسى أن يتركوهن وسط الأهل في المخيم ، وصراخ أطفالهن يشق العنان الخالي في فلوات منذورة للنسيان الأبدي . عندما أردنا الإغارة على هذا الجيش الجرَّار المدجج ؛ كانت السماءُ ذاهبة ًفي شفقها الأحمر ، وصوت الريح يؤزز المكان ، حاملا معه قضيضا وترابا أحمر أرجوانيا إلى داخل المخيمات . فشلت العملية ؛ فاعتقلوا منا العديد و أعدموا منا الكثير ، فوضعوا رؤوسا للجثث فوق الكثبان الرملية ، ليأخذوا صورا للذكرى و للتاريخ ، فأصبحوا كسياح يعشقون جمع الصور . أجساد باردة مدفونة ومعفرة بالرمال ، حتى أصبحت الجماجم تتعاثر فيها غربان و زواحف صحراوية . إنه مستنقع دموي غريب . كان ذاك يوم مشهودا على مجزرة شنيعة ، شريط أحداثها لم يحذف من ذاكرتي إلى الأبد . فقدت أهلي و صغاري ، وتهت في فلاة ، فارا من الهلع الذي سكن فؤادي . لكنهم تعقبوا أثري بمروحيات ، فاعتقلوني على مشارف واحة ميفراني الجنوبية ، نزلوا من على المروحيات بالسلالم الخيطية ، ووضعوا عُصابا على عيوني . فتهت بعد ذلك في عتمة شديدة ، جمرة من الحرقة ذبحت صدري ، فقدت فيها وعي و شعوري ، خصوصا عندما أفكر في مصير عائلتي الصغيرة . لم يكن لدي إحساس دفين بهذا المصير المُدلهمِّ ، فصرت ككلب حراسة ، أو كبندول ساعة يتراوح بين الحسرة و الأسى المقيت ، خصوصا عندما اختارني شوفاليي من بين العديد من الأسرى ، لقضاء ما تبقى من العمر في قبو مظلم ومعتم وسط الزنزانة .
لم أر نور النهار إلا بعد أشهر من الاعتقال في زنزانة انفرادية أكلني الدود ، فأطلقوا الحرية لعيوني ؛ وجدت نفسي أتعقب المحميات البرية ، وأنظف أمكنة الأبقار ذات الأصل الهولندي الممتاز ، وأطارد الزنابير كي لا تضيق على النحل الولاّد عسلا . وكنت أنتظر شاحنات لحمل صناديق الجبح مرة في الأسبوع ، فأحملها على ظهري لما يزيد عن كيلومترين بين أدغال بني أحسن و مصغرة الجنوبية ، ولا أعود أدراجي إلا بعدما يمضمض الشفق الأحمر فم السَّماء ؛ أعود منهكا ومتعبا من فرط التنقل بين المزرعة والشاحنات الرابضة جنب الطريق المؤدية إلى مصغرة .
حياتي أصبحت دفينة و أسيرة حزن مقيم بين جوانحي ؛ أتذكر ابني و بناتي ، وأصواتهن ظل رنينا في كياني ، يتردد في دواخلي كصفارة إنذار؛ لأنني لم أستطع أن أدافع عنهن ، وتركتهن يواجهن مصيرهن المعتم . غصَّة و جمرة و حرقة وأفول كلها تعرفني ، أضْنى الأسى كبدي ، و نالني ما يشبه القـُداد المزمن .
إسهال ، وما أشده .
كنت أعاني منه ، ومن الاجتفاف الذي ظل يُلاحقني ، يَعتصرُني . كنتُ أصارع الموت كل ليلة وحيدا أواجه مصيري ، أتضوَّرُ ألما من فرط شربي الماء المالح ، عسى أن يخفف عني هذا المصاب .
أحسّ صاحبُ العينين الزرقاوين بالضيم ، ينزل عليه شآبيبَ . وانهالَ عليه وابلٌ من الأسئلة المصيرية . تساءل عن وضعيته في المزرعة ، و عن علاقته بصاحب المزرعة . واستجلاءا لهذا الغامض المبهم قرر أن يرفع رسالة إلى ديوان المقيم العام ، جاء فيها :
” إنني أحمد بن محمد البوهالي أسير في مزرعة مصغرة
الجنوبية ، أريد أن أعرف ما تـُقرر بشأني ، وأنا أسير لديكم .
ما الوظيفة التي سأقوم بها ؟ وما الامتيازات التي ستمنحونها
لي ، وأنا ، على ما يبدو ، سأفني ما تبقى من عمري أسيرا
لديكم ؟ ” .
إمضاء : أحمد بن محمد البوهالي
الكاتب رشيد سكري
كاتب مهتم بالقصة القصيرة ، وبالدراسات الأدبية ، له مجموعة أعمال منشورة في جرائد وطنية ورقية وإلكترونية وعربية.
اترك تعليقا