قصة
مدَّ عَبُّو رجليه تحت شجرة التين ، ذات العريش الممتد ، وهو ينظر إلى حوافي الوادي ، وقد تفتقت أكمامُ براعم البنفسج ، وذاع في المكان عطرها السَّاخن . على مد البصر ، كان ضريح سيدي أحمد البوهالي معلقا في العنان كتميمةٍ بيضاءَ . فكلما اقترب موسم الربيع ؛ فصل التزاوج يغتبط عبو بفرح لا يدرك مصدره ، يتقلب فيه كوجع مقيم .
كانت قرية آيت عبو الحبيبة كلها تتهيَّأ للرحيل .
هيَّأت حَدُّوم الرَّاحلة ، واضعة عليها سُجُوفا غليظة من أغطية و مُتـَّأكات ، وصندوقا خشبيا عجيبا ، جلبه عبو من ثكنة عسكرية أمريكية بالقنيطرة . لوحه محفوظ من الأردواز والعرعار المُسمَّط المدهون بطبقة من ” لاكي ” البراقة ، تخترق صفحاته نوامشُ بنية كعيون قطط وجلة مدفونة على صفحاته الملساء . من وسط الفناء المترب تلمَّس عبو طريقه بعكازه المعقوف ، وعيناه الحسيرتان يتعقب بهما أتانه الشهباء الضامرة ، المقيمة على شفا حفرة من النفوق ، وهي تقضم حبات الشعير في مرشحة من نبات الدُّوم و الحلفاء ، المبلل بقطيرات مائيَّة ، ترطّب القضْم وتستسيغه . غير بعيد ، كانت أشجار الرُّمان تحمرُّ فيها الثمار الدانية القطوف تحت أشعة شمس دافئة ، من شموس آيت عبو الحبيبة ، معلنة عن قرب موسم الرحيل إلى الضريح .
يتذكر عبو كيف كانت حياته ، مذ نعومة أظافره ، مسْجورة بهذا الارتباط الأبدي بالمكان ؛ ضريح سيدي أحمد البوهالي المعلق بشآبيب بين السَّماء و الأرض في فلوات الغياب ومشارفه الخبولة . من النجف الأشرف الذي يستطيل فيه عريش نبات الخروب ، كان عبو يتلصص بعيون نزقة على عالم الكبار والمسنين ، وهم يقيمون الذبائح ، وينصبون الخيم من وبر الماعز و صوف الخراف الأبيض الناصع ، كي يعكس عطش أشعة الشمس . ما كان يثيره ، وهو يتسلى بهذه اللوحة الغريبة ، التي أصبحت جزءا من الذاكرة ، وادي الدماء الذي يغزو السَّاحة ، ويفصل آيت عبو الحبيبة إلى عذوتين ؛ دماء الذبائح والمَكرُمات تشق ، في انحدار وهَّاج وقان ، السَّمْت المُرمَّل نحو الوادي الكبير . فكلما تغير لونه إلا و أدركتِ النـِّساء ، اللواتي يترددن على السَّواقي ذات المياه القرَّاحة العذبة ؛ طلبا لإزالة الأدران ، أن موسم ضريح سيدي أحمد البوهالي قد هلَّ هلاله .
ـ 2 ـ
في عباءة كفزاعة الخريف ، ذات عروة وحيدة جهة الظهر ، يتسلل عبو إلى الضريح ، مدسوسا على أقدام حافية . من خصاصات بابه و ثلمه المتهالكة كان يسمع مواء القطط يرتفع في وهج المكان ، فكلما اقترب من جداره الأبيض اشتعل فيه حنين ، واستيقظ تحت جلده وجَدٌ غوير . كانت القطط تتمسَّح بالجدار، في انتظار قبسة شمس تدفئ فروها الناعم . على هدير مواءاتها المتسارعة كصفارات إنذار ، يدرك حراسُ الضَّريح أن زائرا جديدا قد ولج البلاط و الفناء الداخلي . كانت أذنا عبو المتوهجتان تسمعان غريب أساطير هذه القطط ، التي استوطنت الضريح منذ ثلاثين عاما ، قيل إنها من أصل شريف جاءت مع قوافل التجارة الحجازية عبر مضايق جبال تودغة و فيافي أم دَرمان ، فتناسلت حتى أصبحت جيشا يحرس الضريح .
من داخل البلاط المُطيَّن كانت القِدَرُ النحاسيَّة الضخمة تسد المعابر و الممرات ، نحو البيوت الداخلية المسدلة عليها أسدافٌ من حرير مُوشـَّى بتطريزات و حبيبات متداخلة الألوان . في الأثافي جُذوات لازلت تقدح بعض شراراتها في سكون و هدوء . يسكن في داخل عبو الطفل ، الذي حَطم أسطورة الضريح ، أزال غشاوة صفيقة عن عينيه النزقتين المائيتين . وبخفة السنجاب ورشاقته ، ولج داخل الفناء المخصص للتـَّهَجُّد و الأذكار . وفي مقربة من هذا المجلس يرقد الولي في هدوء و سكينة أبدية ، إنه الولي سيدي أحمد البوهالي ، المدثـَّر بأثواب بالية و متلاشية ؛ وعند قنة مرقده أوانيُّ خزفية تروي رواء الولي . كان الاعتقاد السائد صعوده من الأسافل و الظلمات ؛ ليقتات على المكرمات ، و بعد ذلك يعود إلى رقوده الوسنان العجيب . من وراء الغبش الذي يلف بيت الضريح ، كانت شقوق وخصاصات ينفذ منها ضوءٌ أصفرُ لشموع مبثوثة على شمعدانات في استطالة الجدار . في سكينة وهدوء كانت أصوات هامسة يتحسس عبو نبراتها الساخنة ، كشف عنها مسترسلة في وجد غامض مبهم . ونطق الصوت ببحة شقية :
ـ إنك أيُّها الصَّبي قد اقتحمت شغاف قلبي ، فاحمل عني بركاتي ، التي تغطي سماء آيت عبو الحبيبة .
أحس عبو بارتجافة و ارتعاشة ، فخرج في ذعر و خوف ، تعاثرت قدماه الحافيتان في كل ما يصادفه من أوان و أقداح ، ولم يشعر بجسده الصغير المُسجَّى ، إلا وقد تحلق حوله نفر من حـُرَّاس الضريح .
ـ 3 ـ
عند الحجرة الملساء ، مجلس ينشط وسط قرية آيت عبو الحبيبة ، تناقلت الأفواه ولاكت الألسن أن عبو أصبح امتدادا شرعيا للولي سيدي أحمد البوهالي الراقد في الضريح ، فكرائمه ستعم قريبا قريتنا .
الكاتب رشيد سكري
كاتب مهتم بالقصة القصيرة ، وبالدراسات الأدبية ، له مجموعة أعمال منشورة في جرائد وطنية ورقية وإلكترونية وعربية.
جميل جدا أستاذ رشيد