رشيد سكري يكتب: تسامحٌ وتعايش

11 مايو 2021

    من خلال مواثيق ودساتير تاريخية، نستحضر حروبا دينية أرخت لأحداث دموية في أوربا إبان العصر الحديث. بالموازاة مع ذلك ، وسعيا نحو محو الضغينة والإجهاز عليها ، ظهر في منتصف القرن السادس عشر ، ما يصطلح عليه باسم ” توليرانس” أي التسامح  . بما هو اعتراف مبدئي بالصراع الدائر بين قوى من أجل السلطة الدينية، وبسط الهيمنة المطلقة على كل مخرجاتها؛ بهدف التحكم الفعلي والمباشر في مصائر البلاد والعباد . إن الحق في الاختلاف كان من بين المنعطفات الخطيرة، التي أسست لعهد جديد في أوروبا، وذلك عبر سن قوانين جديدة ملزمة لكل القوى المتصارعة. وهذا ما كشف عن الدور، الذي يلعبه الشأن الديني في استثبات الأمن والسلام بين شعوب وأمم العالم الحديث.



 وغداة تأسيس الفكر الليبرالي في أوروبا، انبثقت مراسيمُ تثبت الحق في الاختلاف؛ كميزة إنسانية، تطمح إلى خلق اعتراف حقيقي بالآخر، ومدى أهميته في استقرار وديمومة الحياة الكريمة. وبهذا جاءت الليبرالية لتكتسح كل المؤسسات، التي تسوس الشأن العام من غير التفكير بالعودة إلى سنوات العتـْمة والضلال. ومنها كان الإصلاح جار على قدم وساق بعدم فك الارتباط، الكلي والمطلق، بالنصوص التشريعية القديمة، التي تنظم الشأن الديني في أوروبا، بغية حفظ وصيانة الجوهر الروحي عند الإنسان ، خصوصا وأن أوروبا داخلة على، إثر ذلك، عهدا جديدا متمثلا في الثورة الصناعية الحديثة ، وما يليها من هجمة على شعوب مستضعفة ؛ للظفر بثرواتها وخيراتها.

   إن التسامح، في هذا الباب كمفهوم، يكشف عن الاختلاف، ويعترف به في الآن ذاته. من هذه الزاوية، استعمل على عدة واجهات تضمن بموجبه الاستمرارية من جهة، وتحفظ الهوية من جهة أخرى. فما كان للدين إلا أن يلعب دوره الكبير في ترصيص صفوف المجتمع، لمواجهة الهدر الذي تتعرض له الهوية الجماعية، والذوبان الكلي والمطلق في الآخر المهيمن، كما هو الشأن في العالم الإسلامي.

  تستطيع الحرية الدينية والتسامح فعل الكثير ، وهما جسران نحو بسط النفوذ والسيطرة على مداخل الثروة عند الشعوب المستضعفة . ولم يكن ، أمام هذه الأخيرة ، إلا الإذعان لأمر الواقع ، مادامت لا تتوفر على آليات وميكانيزمات تفكك بموجبها الخطاب السائد . وعند رفع القناع ، عن الوجه الحقيقي لليبرالية ، نجد التعصب والعنصرية المقيتة تخيط كل المواقف والقناعات ، بغية تكريس تلك النظرة الدونية والاستعلائية ، في الآن ذاته ، تجاه الآخر المنحط و المتخلف اجتماعيا وثقافيا وفكريا .

  وفي هذا الصدد ، نجد العالم الاسلامي يركب موجة التسامح بهدف المقاومة ، والحد من التغلغل السياسي للآخر ، الذي يضعف الإرادة الحقيقية للتغيير . علاوة على ذلك كان للباحث المغربي الدكتور على أومليل ، في كتابه ” في شرعية الاختلاف ” ، رأيٌ آخرُ بشأن التسامح ، فكان البحث عن الأصول وتعريتها من الصدأ ، الذي غلفها وغير من طبيعتها ووظيفتها ، أمرا في غاية الأهمية حسب أمليل ، وهي فرصة مواتية ليعطي للمنهج التاريخي الموضوعي دفعة قوية في الساحة العلمية . إن الرجوع إلى كل من رفاعة الطهطاوي  وجمال الدين الأفغاني كفيل بأن يأخذ التعصبُ مداه الحقيقي في التأثير على القرارات الحاسمة . فحسب هذين العالمين الجليلين كان دائما التعصب وجها مضادا للتسامح ، نظرا لحضور مفهوم الأمة في معالجتهما لمختلف القضايا الإصلاحية الخاصة بالعالم الاسلامي . غير أن الأفغاني كان له موقفٌ آخرُ بشأن التعصب، فهو في نظره ليس مذموما مادام يرمي إلى وحدة الأمة ضد الأطماع الأجنبية. لذا فمن الأجدر أن نقول إن المفاهيم المتداولة ، في الساحة الفكرية والعلمية آنذاك ، تتغير معانيها بحسب الظروف الموضوعية التي تميز عيون المرحلة .

  في هذا الإطار يرى علي أمليل أن على التيارات الإصلاحية في الإسلام أن تأخذ بجدية الفوارق الإثنية واللغوية والأخلاقية ، التي تقطع ربوع العالم الإسلامي ، وتتخذ من الحرية الدينية وسيلة فعالة للعبور إلى الاختلاف ، بما هو تعبير عن العيش والتساكن . في طليعة ذلك ، نجد بلاد الأندلس الرقعة الإسلامية ، التي تجسدن التعايش بأبعاده بالرغم من وجود اختلاف على المستوى الديني والعقائدي .  فكان ابن حزم قاطرة حقيقية للتعايش رغم اختلاف الأديان ، فلولا الأرضية الثقافية والفكرية المتينة والصلبة ، التي بسطها ابن حزم من خلال جلساته العلمية ومناظراته الفكرية ، لما نال الشهرة التي خلدته في الأدب الأندلسي .

    استطاع كتاب ” طوق الحمامة في الألفة والألآف ” أن يفعل الكثير في موضوع التسامح ، من خلال الرسائل التي تدوولت على أكبر مستوى بين المثقفين المهتمين بالشأن الأندلسي  ، والتي كانت في أغلبها ، تلهج بلسان المودة والمحبة والتقوى . وفي هذا الصدد ، حث ابن حزم على تقوية أواصر الحوار والمحبة ، والسير قدما نحو إرساء قواعد و ثوابت الجوار ، بالرغم من الاختلاف الذي يعري المذاهب المتساكنة في الأندلس . فكان المثال ، الذي يستشهد به ابن حزم ، في إرساء دعائم التعايش والتسامح ، عنوانا كبيرا للانصهار والذوبان في الآخر بالرغم من الاختلاف على جميع الأصعدة ، يقول ابن حزم في العلاقة ، التي ربطت بين هشام بن الحكم الشيعي ، وعبد الله بن زيد الفزاري ” صديقان مخلصان في دكان واحد ، لم يتحارجا قط “.



   والذي دفع بالتسامح والتعايش إلى أن يبلغ مداه، ويجلل بالطـُّهر والصَّفاء، الحياة في الأندلس؛ التسامر الثقافي، ومنتديات الشعر والأدب. فكانت المسامرات ، التي يقيمها ملك إشبيلية ؛ المعتمد بن عباد وأبوه المعتضد ، عنوانا كبيرا للألفة والجوار، فكما ذكر أحمد المقري التلمساني في ” نفح الطيب ” أن للمعتضد دارا لا يدخل عليه أحد فيها غير الشعراء ، وكان يوم الاثنين من كل أسبوع “.  هذه الألفة واللمة والالتفاف حول دُرر الشعر والأخبار رسخت عادات وتقاليد التسامح، مبعث الطمأنينة والسكون، والجدال من أجل الوصول إلى حقائق عامة.

  ففي التسامح، دائما، يجيء الدين رافضا التعصب، الذي تـُكرَّس في أمهات مصادر الثقافة العربية . إن الجاحظ، في هذا الباب، مهما حاول إخفاء وقوفه النـِّدِّي للشعوبيين، إلا أنه يعتز بالانتماء إلى سليل العروبة، حيث تحتل اللغة العربية مكانة فضلى بين سائر اللغات. وقد أظهر الجاحظ في كتابه ” البيان والتبيين ” ولاءً كبيرا للعروبة ، بهدف الرقي بأمة حباها الله بالدين الإسلامي . غير أن هذا الاعتزاز إلى حد الهوس، قد يتحول إلى خوف من مصير مجهول، يحول دون تحقيق أهداف الأمة؛ من بينها الوقوف أمام غزو حضاري وثقافي مرتقب، يتهدد قديما، الوجود العربي من طرف الفرس والروم. وفي هذا يظل التسامح والتعايش صفتين أساسيتين تمكنان المجتمع من أن يعيش في وئام وحرية، فأيَّا كانت الظروف، التي تحول دون تحقيق وحدة الشعور والانتماء، فإن الحضور القوي للخصال الإنسانية تغير مجرى التاريخ، وتجعل من الإنسان قريبا من إنسانيته، يتعايش في وئام وانسجام مع الآخر.

رشيد سكري – مدينة الخميسات



اترك تعليقا

لن يتم اظهار بريدك الالكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها *

: / :