1.
تنط المرأة البدينة أمامي، فوق الدُّرج، مِرْقاتين مِرْقاتين . يُظهر، لباسها الرّياضي المشبك الشفاف، تقاويم جسدٍ مُرقـَّش أبيضَ . وعلى بَرَامقِ الدرابزين ودون أن تسمع لها صوتا، كانت تضع، في غُنْج ودلال ، يديها البضَّتين الناعمتين؛ فتدفع بهما قوامَها المترهل إلى الأمام. فلا يُسمع إلاَّ صريرُ سلسلة ذهبيَّة رقيقة عالقة بمعصمها ؛ فهي ، في الحقيقة ، خفيفةٌ كظل وَزَغَة أو تكاد؛ فالبدانة ملأت جانبيها كمِجَنٍّ واق.
كانت الإضاءة الخافتة في الدُّرج تنزل خفيفة، تتمسَّح بالحيطان؛ فتعكس عليها ظلالنا الواهمة . الإشاراتُ و الأسهمُ الزرقاءُ المنصوصة على الجدران تشير إلى الطابق الخامس، حيث توجد نسرينُ الموثقة ، والتي نحن إليها ذاهبون . مررنا بلوحات برونزيَّة عدة، وبأرقام هواتفها الثابتة و المتحولة.
ـ سعيد ” س” أخصائي في أمراض النساء والتوليد؛
ـ نزيهة “ح” محامية مقبولة لدى المجلس الأعلى للقضاء.
قلت : المصعد الكهربائيُّ على ما يبدو غير مشغلٍ .
أجابتني بصوتها الرقيق المفعمِ حيويَّة: وإن كان مشغلا ؛ فأنا لن أستطيع أن أستقِله .
قلت : لماذا ؟ مستفسرا.
قالت : إن حوادثَ الأسانسور على ملءِ السَّمْع و البصر، وغالبا ما تنتهي بكوارثَ حقيقيةٍ . ليست هناك صيانة على الإطلاق، لهذه المركبات الفضائيَّة الصاعدة ـ الهابطة.
أعجبني جوابُها ، في حين كانتِ المراقي الأفعويَّة تتيه صَعُودا في العتـْمة ، تمتد كاسرة ظلالا واهمة ؛ وتطول مثل أدراج حدائقَ بابلَ العتيقة . كرمادِ الأثافي ، رويدا رويدا ، تخبو أمامي قوةُ المرأة البدينة ، و تتقاعس مع تقدمنا في الصُّعود . غير أنها لم تستسلم، فعوض أن تثب مرقاتين اثنتين؛ بالكادِّ مِرْقاةٌ واحدة. ويتبعها تمسُّحٌ بالحيطان ، وأحيانا توسُّدُ برامقِ الدرابزين .
أحست المرأة البدينة بالدُّوار ، جلستْ كقارئةِ الفنجان ، مدت رجليها فوق الدُّرج ، وفتحت أزرارا كانت تحبس أنفاسها ، نشنشت بيديها المفلطحتين، باحثة ًعن نسيم وسط رطوبة الإسمنت . اختلط صوتها الرَّغويُّ، بهَرْجِ أحد الزبناء، يجيء مُنيفا من قاع العمارة. وقالت :
ـ أرجوك … اِفتح الطاقة .
اِمتقع وجهي و تنمـَّلت سيقاني من الوجل ، مخافة أن تقع الكارثة . انطويت وتمددت بسرعة، كـبُرْدةِ أسرارٍ؛ كي أصل إلى النافذة الضيقة المفتوحة، كالقبر، على طول الجدار. والمطلة، في الأسفل، على دور واطئة مهزومة ومهجورة، تسكنها غِربانٌ وتينٌ ورمانٌ. أشارت بإصبعها المستدق إلى حقيبتها الجلديَّةِ الحمراءِ ، كي أحمل لها ماسحا تمسح به ما تفصَّد من بدنها المكتنز . بعدما فتحتُ الكوة الإسمنتية في الدُّرج، اتضح لي أن ثياب البدينة، قد تـَرَطـَّب وتندَّى بعرق ٍفيَّاضٍ لا ينضبُ له معينٌ. أعمتني رائحتُها الإبطيَّة الضَّاجّة بالمكان ؛ فظهرت فوق خِلعِها بقعٌ زيتيَّة صفراءُ .
بين كذا ترجرج وتحشرج، أصبح نَفَسُها يتضايق، كأنما صُعِّدت في السماء. وكنت أسمع شهيقها وزفيرها يتلونان بأصواتٍ مبهمة بئيسة … تعلو وتعلو. وجهها المُسَفَّع المدوَّرُ كصحنٍ تغيرت ملامحُه بسرعة ؛ أنفُها الخنسائي القميء عَنت منه ثقوبٌ مُعفَّرةٌ سوداءُ ، وعيناها النجلاوان ذهب بريقهما وجفَّ ماؤهما.
ناديت بأعلى صوتي، قائلا:
ـ إنني بِحاجة إلى مساعدة … إنني بحاجة إلى مساعدة …
ـ مساعدةٌ أرجوكم … مساعدةٌ أرجوكم …
ـ المرأة بحاجة إلى مساعدة …
يتردد الصَّدى عبر تجاويف الخصاصات، وثـُلم الحيطان، والمراقي الأفعويَّة.
يتبع الصَّدى.
ويعود إليَّ حسيرا.
كان هسيسُ بعض الأصوات يصَّعَّد إلينا قويَّا من الأسافل ، وما فتئ يتلاشى مثل غيمة صيفية . فتترك أمامي مساحات من التأمُّل و التدبر . لم تقو البدينة على تسلق المراقي نحو نسرين الموثقة ؛ فخارت قِواها على حين غِرَّة .
أمامي، الآن، مراق ٍوبدينة ٌممددة فوق الدُّرج؛ ككتلة أسرارٍ …
فأدَتـْنِي…
2.
مكتب نسرين الموثقة .
يا لـَضَيْمِ المراقي الأفعويَّة.
أخيرا … مكتبُ الموثقة.
واجهة زجاجيَّة شفيفة ٌ، وباب رفيع من الكروم الإنوكسي ، يلمع بريقه كالكريستال . في الباحة مقاعدُ لازارُو المنجَّدة الدائريَّة، يتوسَّطها مكتب الإستقبال، موضبٌ بعناية شائقة وعبير روائح البارفان الإيطالي عبقت به المكانُ. ساعة يونانيَّة مشنوقة ببندولها يذهب ويجيء في حماسة الشجعان . وأباجورات تحبس النور و تسرحه في وجوم ، كمدخل لمدينة موبوءة و منكوبة .
فوق مقاعدِ لازارُو ارتمت ككتلة ثلج باردة ، لم تستطع أن تقاوم المراقي الأفعويَّة ، فهو تحدٍ ضد الجسد و الروح والدُّرج معا . يخرج نفسها بعطر الألم و الحسْرة . اقتحمت علينا مساعدة الموثقة الباحة ، تتغشى بوزرتها البيضاء الصافية ، مكدودة القد و القامة كالمومياء المحنطة ، وفي يدها قنينة ُماء معدنيٍّ . رشـَّت وجهها القميءَ بالماء؛ فضمَّخت شعر ضفائرها المُراقة فوق كنبة لازارو. حركت شفتيها المرسومتين بأحمرَ شفاه قان ٍكالدم، وقالت:
ـ بَردانة ٌيا قلبي ؛
ـ صَدْيانة ٌيا عيني .
هزَّتها الرَّعشة ُ هزا … تخترق جبهتها كسيفٍ من الضياءٍ ، كما اخترقتْ مريمَ المجدليَّة .
بعد ساعة انتظار عسير، يمسح كل الملامح ويغيب كل الوجوه. قالت البدينة:
ـ لِمَ تركتني وحيدةً ، أصارع شعاعا اخترقني كالنور؟
كان لا بد لي أن يجيء معي من يشدُّ أزري. فكما قلتُ لكَ، قبل لحظة اليقين، إنني لا أثق بالمراكب الفضائيَّة الصاعدة الهابطة. وها أنا ، الآن ، وقعتُ في شِراك هذه المراقي .
كنتُ أقف بالكادِّ ، لملمت ضفيرتي ، فاتجهت قدماي نحو النافذة المطلة على حوافي الدنيا الفسيحة ، حاملة ً معي كتلة من أسرار ٍ؛ غِربانٌ تطوف العَنَان ، و نوارسُ تتحلـَّقُ حول مراكبَ ، ماخرةً رَّذاذا صفيقا . أدخنة بعض المصانع تجثم فوق صدور البشر. مَرْجٌ وهَرْجٌ يتيه في أعناق الدروب، وفوانيسُ تتدلى منها أعشاشُ لقالقَ مهاجرةٍ.
فسجّلي يا نسرينُ …
إنني سأتبرَّع بجزء من الحي القصديري ، حزام الفقر و البؤس ؛ لإقامة مدارسَ ومستشفيات للأمهات الضائعات الجائعات الجَدْلى وراء أطعمة الوطن الفاسدة . هن سَوائمُ الوطن . أطفال في لون التراب من السَّقم و الطَّوَى . يتكومون كأسمال بالية عند وصائدِ المساجد والمعابد والكنائس القديمة.
ينتظرون رغيفا أغْبرَ؛ آفِلا ًطُعمُه.
فسجِّلي يا نسرين … وسجِّلي.
اترك تعليقا