رشيد سكري يكتب: الشرق الفنان … والغرب الحالم

10 فبراير 2021

    ما معنى أن تكون لك نظرة ٌ فنية ؟

    في هذا السؤال إحراج كبير للذين لا يولون اهتماما كبيرا لصناعة الفن بصفة عامة . عادة ما كنا ننتصر إلى ذوق رديء ، وعادة ما كنا ننظر إلى المنحط ، نغما وإيقاعا ، نظرة إعجاب وهيام  . وفي سبيل ذلك ، تدحرجت هذه الكرة الثلجية كثيرا في المنحدر ؛ لتشمل كل مناحي الحياة القريبة منا والبعيدة . فلم نعد بمقدورنا أن نميز بين كلام و كلام ، أو بين نغم ونغم  ، بل أصبحنا ضعافا أمام العاطفة والوجدان ، باعتبارهما رافدين أسنيين لصناعة الفن وتذوقه .

الفن الرفيع يتحسسه القلب قبل العقل . وهذا ما دأبت عليه ، في منتصف القرن الماضي ،    الموسيقى العربية . فحيثما اجتمع الثالوث الشاعر والملحن والمغني ، اجتمعت سمفونية الوجود ؛ لتعزف لحنا خالدا طروبا . فمع محمد الموجي ورياض السنباطي وعبد الحليم حافظ ، مثلا ، كان إيقاع الحياة مشاءً نغما وجمالا ، رافق أجيالا متعطشة للفن الرفيع والراقي على امتداد الوطن العربي ، إلى درجة أننا كنا نضع صورة العندليب الأسمر على ظهر غلاف دفاترنا بالقسم الابتدائي . إن العمل الفني الرائد ، بهذا المستوى ، يسمو فوق الأذواق جميعها ؛ ليخلق لذاته إطارا من الإمتاع والمؤانسة .

  أثناء قيامي بمراقبة واجبات منزلية ، بخصوص تعلم اللغة الفرنسية ، الخاضعة لبعدها الشفهي التواصلي ، كانت بودكساتها تغزو مواقع إلكترونية عديدة ؛ إن قراءة ًوتعبيرا . بيـْد أن القائمين ، على هذا المشروع اللغوي الضخم ، كانت لهم مقاربة جديدة ذات بعد فني ؛ فتعلم اللغة ، وتحبيبها إلى الناطقين وغير الناطقين بها ، لا يستقيم عوده إلا عبر مسالك  ومعارج فنية ـ أدبية  . فلا يتركون الفرصة تمر إلا و يعرضون، في هذه النصوص، بعدا جماليا فنيا مرتبطا بالأحداث والزمان والمكان.

  فتقديم فن العيش ، واستغلال وقت الفراغ لا يتم التعبير عنه ، في هذه البودكسات ، إلا في قالب فني مستساغ ، يسهل هضمه واستيعابه . كالحديث ، مثلا ، عن متحف عرض التحف الفنية النادرة ، أو بسط حوار حول رواية حققت نجاحا كبيرا ، أو وصف تقنيات فن السباحة والتصوير والرسم والنحت والرقص .  وبذلك ، يتم تحبيب هذا المكون اللغوي ـ التواصلي عبر مسوغات فنية ؛ لأن الإنسان فنان بطبعه .

  وفي غمار ما هو مسموح به ، نستطيع أن ننظر إلى دواخلنا ؛ بهدف العثور على الأسباب والمسببات ، التي تخلق هذا التميز بين ما هو فني و غير فني . في سبيل ذلك ، تغدو الإسقاطات الذاتية على التجارب الشخصية منعطفا خطيرا في توسيع رسالة الفن إلى العالم. ومن هذا المنطلق نظر الدكتور زكي نجيب محمود إلى الوجود الخارجي محفزا ضروريا ، لتشغيل على أوسع نقاط ، الملكات الفنية  التي يزخر بها الإنسان الفنان . فأيا كانت هذه الرسائل ، التي يحملها العالم الخارجي ، فإن المرء باستطاعته أن يسقط عليها تجاربه الشخصية ، غير بعيد عن تلك النظرة القريبة من ذاته ؛ وعبرها يضمن المرور السلس من الحالة الفنية إلى الحالة العلمية . وهذا ما ينطبق على مقاربة الأديب للظواهر والقضايا التي تصادفه ، وهو في صالونه الأدبي  . فالوردة ، مثلا ، تقبل سمتين اثنين ؛ إما أن ننظر إليها نظرة الفنان بإحساساتنا ومشاعرنا ، وما تحدثه من تغيرات على شعورنا ، وكيف وظفنا الوردة  في تدفقات مشاعرنا الصادقة تجاه الآخرين . وإما أن ننظر إليها نظرة العالم المجرد من الإحساس والمشاعر ؛ فنبحث في تكوينها الجيني ، وتفاعلاتها الضوئية والخلوية ، وما يعتمل بداخلها من طاقات حرارية ، تضمن بها النمو تحت أشعة الشمس ودفئها . وفي هذا الصدد ميز الدكتور زكي نجيب محمود بين الفن والعلم من خلال تعريف شامل للرسالة التي يوقعها الفنان بفنه ، حيث يغدو هذا الأخير نظرة داخلية وذاتية مباشرة .

ومن هذا المنطلق المترامي الأطراف ، الذي يخلق علاقة متوترة بين الفن والعلم ، انبثقت رؤية الإنسان الجديدة للوجود و الكون .  وفي ذلك حدد زكي نجيب محمود في كتابه ” الشرق الفنان ” روافد الأصول الفنية في الشرق العربي ، باعتباره مصدر إلهام في الإبداع  والذوق الجمالي والروحي . غير أن هذا الشعور والإحساس الفني يخبو ضوؤه ، وينكسر عند صخرة الغرب الحالم ، الذي يخضع موازين قواه على محك العقلانية .

فكيف يستطيع هذا الشرقي العيش في زوابعَ فنية تذهب به كل مذهب ؟ وماذا جنى من تشبثه الجامد بفلسفات وجودية ذات أبعاد فنية ؟

انطلاقا من العلاقة المتوترة ، التي تربط العالم بالفنان استطاع الغرب أن ينحت طريقا يتم بموجبه القضاء على تلك النظرة الجمالية للكون عند الشرقي ، عن طريق إغراق الشرق في متاهات وشراكات سوسيواقتصادية بغية الهيمنة السياسية . من هذه الزاوية ينطفئ وهج الرؤية الفنية ، وتصبح مجرد رؤيا ينقشع سرابها في سحَر . فبالرغم من الانتصار القوي الذي حققه الشرقي في بسط مفاتن الحياة وملذاتها ، وجعل منها حياة يتنفسها و يحياها ، إلا أنه أدرك مع متواليات زمنية أن ما يتهدده أكبر بكثير مما يتصور . خصوصا مع أعداء الفاشست العائدون ؛ ليصفعوا الفجر الوليد ، حسب ” أغنية انتصار ” لعبد الوهاب البياتي . ومما لا شك فيه أن زوايا النظر و البارمترات تختلف باختلاف حواس الغربي الحالم ، الذي تحولت نظرته  للشرقي من الإعجاب إلى الازدراء ، بفعل الحملات العسكرية ، التي شنها الغرب على المشرق العربي .

   وبالموازاة مع ذلك ، لم تخل الرواية العربية من هذا التفاعل بين الشرق والغرب ، بل استطاعت أن تحفز القارئ العربي إلى اكتشاف عوالم هذه المقاربة غير المتكافئة بين الشرقي الفنان والغربي الحالم . إن ما سطره لورنس العرب ، في يومياته عن حياته بالمشرق العربي ، عقب التحاقه  بالصفوف الداعمة للحرب ضد المد العثماني ، كان وثيقة استدلت بها الرواية العربية في بناء معماريتها الفنية  . وفي سبيل ذلك ، جاءت رواية ” سباق المسافات الطويلة ” لعبد الرحمان منيف لتملأ الحفر، التي تركها التأريخ العربي لهذه الانعطافة التاريخية الحاسمة للشعوب العربية .

 رشيد سكري – مدينة الخميسات

اترك تعليقا

لن يتم اظهار بريدك الالكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها *

: / :