في هذه اللحظة اكتب، وفي الان ذاته اسرد قصة طفلة في ربيع عمرها، لطالما عانت من الحرمان و شاهدت كل اشكال و انواع المكر، و الخداع، و البؤس، و المعاناة .. اجل المعاناة ! لقد عانت ولا تزال تعاني و تقاسي اكثر من أي كائن بشري، على وجه البسيطة .. ثيابها رثة ووجهها كالزهرة التي قطفت من روضة يانعة مخضرة، ووضعت في مكان مقيت ! امتص رونقها ولونها البهيج، جسمها هزيل لدرجة بروز عمودها الفقري .. يا للشفقة ! المسكينة غرقت في واد ضحل ! لم تعرف بدايته ولا نهايته، وهي في عمر الزهور، لا صدر حنون يشفق عليها ولا ظل صبور يلاحقها و يحميها، الكل تركها لتواجه مرارة وقساوة و زمهرير الزمان .
اليوم قررت “غادة” كعادتها التسكع عسى ان يأتيها الفرج ! في مكانها المعتاد، وسط كومة من الازبال ! سؤال: وهل الفرج سيتواضع كل هذا التواضع، و ينزل وسط هذا الركام والكم الهائل من القذارة؟ يا للعجب ! ملابس ممزقة بليت الوانها ،واكتست الوانا جديدة تشمئز لها القلوب، قنينات مكسورة! لعلها مخلفات سهرة من سهرات المتشردين ذوي العقول النيرة !! شظايا اطعمة ملفوفة بطابور من الحشرات متعددة الجنسيات !منظر مروع! رجال مصفرين و مخضرين يزيدون الطين بلة، بأكوام اخرى من القمامة !.
الكل منهمك في مهامه، ما عدا غادة و التي شردت و راحت تسال القدر من جديد عن احوالها القادمة، وعن طبيعتها وهل ستكون مستعدة لمواجهتها و تحملها … وبعد برهة استفاقت غادة على نبرة صوت حنون، ينشد الحانا و الحانا مبهمة نظرا لطول المسافة. استجمعت قواها تسعى وراء الصوت، وفي مخيلتها الصغيرة آلاف علامات الاستفهام .. هل الصوت الحنون هو الفرج ؟ وهل الفرج اخيرا تواضع ونزل ليقابلني ؟يا للتواضع! اذا اراد مقابلتي حقا، فلماذا لم يأت ليقابلني هنا؟ يا له من فرج عنيد؟ و استمرت غادة في محادثة نفسها.. لا يهم ان كان عنيدا لقد استجاب لدعوتي اخيرا، وجاء ليقدم يد العون. استغرقت “غادة” في المشي ساعات و ساعات، تتخطى الحواجز و تعبر بخطى واثقة الهضاب المكونة من اكياس القمامة، بقدميها الصغيرتين الحافيتين! الى ان كلت، مرددة في حزن و اسى العبارة نفسها” يا لعالم القمامة الذي لا ينتهي.!” استجمعت غادة قواها من جديد، وعادت نبرة التحدي تلوح في الافق ، و كلها امل و شوق لمقابلة الفرج لكن هذه المرة ببطيء شديد، فعلامات التعب بادية عليها لكن اصرارها هو سلاحها ..
خارت قوى غادة لقساوة المشهد! فصدرها الصغير يحمل مشاعر جياشة …و احاسيسها مرهفة لكن الزمن قاس! فمشهد الام التي تحاول ارضاع طفلها و تخديره بثديها المليء بالحليب، والحب، والحنان … اثر على نفسية صغيرتنا غادة والتي لم تتلذذ بمداعبة الثدي، ولا بطعم الحليب من قبل ! انهمرت الدموع، وصارت تردد بحزن :” لماذا يا زماني، لماذا يا زماني، حسبتك عطوفا عطفت علي و اكرمتني فرجا تيسر به حالي، و ترزقني صدرا حنونا يسد رمقي، و يكترث لأحلامي و آمالي. اخ.. اخ.. اخ..! لكنك جبار، عنيد، و لا تبالي. تفرح من تشاء و تدير ظهرك و تتجبر على ضعفاء الحال!. استمرت غادة في البكاء و النواح… الى ان استسلمت من جديد، و عادت لتعيش الواقع ! واقعها المرير لوحدها .. غير مبالية لما حدث متناسية عبارات الحزن، و الاسى التي كانت ترددها، وكذاا مشهد الام و الرضيع الذي سلبها قوة الارادة، و الحلم و معانقة الامل و المستقبل . قررت غادة الصغيرة ترك عالمها القديم المليء بالتوقعات العظيمة، املة ان تعيش واقعها المرير بسلام .. متجاهلة تحقيق ما كانت تحلم به عالم مضيء، مشع، و دافئ. و بعد تفكير و سير طويلين، وصلت غادة الى الرصيف و صارت تعبره بخطى بطيئة، غير مكترثة لما هو قادم ! الى ان سقطت ارضا كما تسقط الفريسة بين يدي صائدها . يا للقدر! سلبت الشاحنة الضخمة المخصصة للأزبال، حياة غادة في ثوان معدودة! و تركتها ممددة ككومة نفايات! مزركشة بالوان حياتها القصيرة و البئيسة ” اسود بني رمادي احمر!” كانت صغيرتنا تحلم بغد افضل، لكن ضاع كل شيء في لمحة بصر ..
ولدت غادة محرومة، و عاشت طفولتها القصيرة البئيسة محرومة، و ماتت محرومة من ابسط حقوقها ! ستبقى جثة غادة ممددة وسط الطريق ! و بالتحديد قرب كومة القمامة! الى ان يتواضع وينزل هذا الفرج الرعديد ! عسى ان يكرمها ولو بلون جديد هذه المرة، مغاير تماما عما اعتادت عليه، لون لم تسنح لها الفرصة في ارتداءه ، لعلها اليوم ترتديه كزينة وهي مرتاحة الضمير، للقاء عالمها الذي لطالما نسجته في مخيلتها الصغيرة، ” عالم مضيء ،مشع، و دافئ”.
النهاية
.
.
رانية باحيدة – مدينة مكناس
اترك تعليقا