يعتبر موضوع”الصحافة” من المواضيع التي استأثرت باهتمام الكثير من الباحثين، وتناولتها العديد من الأقلام، وأردت بدوري تسليط بعض الأضواء على هذا الموضوع، معترفة أني تطاولت عليه مع قصر الباع.
وأسأل الله جلت قدرته؛ أن يحظى عملي هذا بالقبول ،وأن يعامل من كل رأي سديد معاملة الكرام؛ فإن أطلعه الله على خطأ أصلحه، أو نقص كمله وصححه.
وقبل الدخول في صلب الموضوع، أرى من المفيد التحدث عن المعنى الذي ترمي له لفظة ” الصحافة” أو “الفن الصحفي” ، بعيدا عن تلك التعريفات السطحية التي تنسب لها.
هلم بنا إذن؛ نحاول استشراف أنوار معانيها،فالصحافة ليست مجرد أداة لتوصيل المعلومات؛ بل هي في حقيقتها الجوهرية صوت الشعب وضميره، فالصحافي هو نموذج لحرية الرأي والتعبير، وفي هذا الصدد نستحضر مقتطفات من الرسالة الملكية السامية الموجهة لأسرة الصحافة والإعلام؛ بمناسبة اليوم الوطني للإعلام 15 نونبر 2002، قال الملك محمد السادس نصره الله وأيده:[ الحرية والمسؤولية هما عماد مهنة الصحافة ومنبع شرفها]، وأضاف[ لا سبيل لنهوض وتطور صحافة جيدة ، دون ممارسة لحرية التعبير شريطة أن تمارس هذه الحرية في نطاق المسؤولية].
الصحافة ليست مجرد وسيلة اتصال، وإلا كان عليها أن تخلي مكانها للقمر الصناعي مثلا ؛الذي يضع كل مشاهد الدنيا تحت أنظارنا في لحظة واحدة… إنما الصحافة هي قوة مؤثرة تستمد فاعليتها من قوة الكلمة التي تستقر في العقول والأذهان، وتتجاوب مع آمال الأمم وطموح الشعوب..فهي ليست كلمة عابرة على الهواء تهز السمع أو البصر ثم تمضي، ولكنها كلمة مستقرة تتغلغل في الأعماق.. ومن هنا كان تأثيرها أشد وأوقع، و أثرها أبقى وأنفع ،فهي التي تقوم بترجمة المصطلحات الجامدة المعقدة المجردة.. إلى مصطلحات الواقع النابض بالحياة، حتى تصل المعلومات للجمهور بطريقة سهلة مستساغة، وعلى هذا الأساس – ينبني الفن الصحفي- على الموضوعية والابتعاد التام عن الذاتية، لأنه يعكس مشاعر الجماعة وآرائها و ايديولوجياتها..فهو مقيد بمصلحة الجموع، لصيق بالجمهور وبالديمقراطية والشعبية؛ والصحافة تقوم على الوقائع المشاهدة وتنأى عن المبالغات والتهاويل لتنقل الواقع وترصده بصدق وأمانة، وتصل في موضوعيتها إلى حد إغفال اسم الكاتب الصحفي، إغفالا معتمدا لأن المهم هو التصوير الموضوعي للواقع وليس التعبير الذاتي عن الفنان.
اذن فالصحافة في حقيقتها مهنة ورسالة ،وليست تجارة او شعارات، تتغير وتتبدل بتغير الأبواق ،ولكنها عقل مفكر مدبر له هدف وغاية، وهي صوت يخاطب عقول الرأي العام المسؤول، و الهدف منها هو تزويد القارئ بالأخبار الداخلية والخارجية التي تهمه أو تهم بلاده بصفة عامة، بقدر الإمكان من الشفافية، الموضوعية، الصدق، الأمانة والدقة، بصورة بسيطة، مستساغة، مألوفة للقارئ ،خالية من التفاصيل المعقدة، وعلى اللغة الصحفية أن ترمي للنمذجة والتبسيط ،لأن العقلية الجماهيرية تركن إلى الاستعانة بالرموز والأنماط والنماذج والتجسيد ،ولا شك أن العمود الفقري للفن الصحفي الحديث؛هو عنصر التبسيط والتجسيد والتصوير الذي يحاول تقديم أعقد المشكلات السياسية والاقتصادية والاجتماعية..باصطلاحات الانسان العادي .
والآن دعونا نتوغل قليلا بتاريخ الصحافة؛ فهذه الاخيرة قديمة قدم الدنيا، وليست النقوش الحجرية في مصر والصين، وعند العرب الجاهليين وغيرهم من الأمم العريقة ،إلا ضربا من ضروب الصحافة في العصور القديمة، ففي المرحلة القبلية كانت مراقبة العدو وكشف تحركاته هي صيغة من صيغ الاعلام ، وكان يعبر عن وجود العدو بإشعال نار أو بقرع طبل..وكان المراقب يقف على أبراج عالية ويقوم بدور إعلام القبيلة بكل ما يحدث، ثم تطورت هذه الصيغة الاعلامية فشهدنا صيغا مختلفة عبر التاريخ منها: صيغة رجل الماراثون حامل الرسائل الشفهية، ثم صيغة المراسل حامل الرسائل المكتوبة وهي مشهورة في تاريخنا، وقد برز أيضا الحمام الزاجل كصيغة إسلامية هامة يحمل الرسائل من بلد لآخر ويربط في قدمه رسالة يحملها عائدا إلى موطنه، ومع بروز أهمية الخيل والحصان اتسعت وسائط الاعلام والنقل وأصبح الخيل أسرع واسطة إعلامية؛ ومع تطور الانسان ونمو حضارته، وتبعا للمد والجزر الذي عرفه الفن الصحفي برز على شكله الحالي، فما رأيكم إذن؛ أن نقف عند نقطة تطور الفن الصحفي الحديث مع مراحل التطور الحضاري المختلفة، فلم يكن تلازم اختراع الطباعة مع ظهور القومية والنهضة الانسانية والاعتراف بالرأي العام والديمقراطية.. مجرد مصادفة، لأن هذه الظواهر جميعا قد تفاعلت مع بعضها البعض بطريقة دينامية حية ساعدت على خلق ثقافة حديثة ،وهيأت الجو لظهور الصحافة الحديثة وتطورها، فكما هو معلوم؛ أن أول الصحف صدرت بالدول الغربية؛ وعلى رأس هذه الدول نذكر: دولة فرنسا ،حيث بدأت الصحافة بهاته الدولة كصحافة رسمية حكومية ،ولعل أول صحيفة ظهرت بفرنسا كانت تحت اسم الجازيت أصدرها رينودو سنة 1631، وظلت الصحافة الفرنسية خلال القرن السابع عشر خاضعة لرقابة شديدة من طرف الحكومة، ثم اقترن تطورها بظهور أول جريدة زهيدة الثمن أصدرها ايميل ديجيراردان اسمها لابرس وذلك في سنة 1836، وقد ساعد ميلاد الفن الصحفي وازدهاره ظاهرة التحضر ونعني بها التقدم الصناعي الذي جذب عددا هائلا من سكان الريف إلى المدن، وتحسن طرق النقل والمواصلات نتيجة تقدم الصناعة واختراع التلغراف والتليفون وتطور صناعة مواد الطباعة ،وذلك فضلا عن زيادة عدد القراء بسبب ظهور الصحيفة زهيدة الثمن، وانتشار الاعلانات وزيادتها.
وأما مراحل تطور الفن الصحفي في بريطانيا؛ فقد صدر أول كتاب أخبار منتظم الصدور في بريطانيا سنة 1622، وكان يصدر رسميا باسم السلطات الحكومية ،أما أول صحيفة انجليزية بالمعنى المفهوم من حيث الشكل وثبات الاسم وانتظام الصدور، فهي صحيفة اكسفورد جازيت التي صدرت سنة 1665، ثم تحول اسمها الى لندن جازيت ،ولازالت هذه الصحيفة تصدر رسمية حتى يومنا هذا وفي حجمها الاصلي، وقد ساعد إلغاء قانون الترخيص سنة 1695 على ازدهار الصحف فصدرت أول صحيفة يومية في 1702 وهي ديلي كرنت، غير ان الثورة الحقيقية في الفن الصحفي الانجليزي كانت على يد اللورد نورثكليف الذي أصدر صحيفة ديلي ميل سنة 1892 وثمنها نصف بنس، فكانت ثورة جديدة في التحرير والاخراج، ثم مالبثت أن تبعتها صحف اخرى، وقد أتاح تطور التعليم زيادة عدد القراء، فكان ظهور الصحافة الشعبية بعد ذلك ثمرة التحضر والازدهار الصناعي والعلمي.
ولعل آخر دولة غربية سنعالج مراحل تطور فنها الصحفي ؛هي دولة امريكا حيث بدأت الصحافة الامريكية بالظهور سنة 1690 بنشرة اسمها الوقائع العامة الخارجية والمحلية ولم يصدر منها سوى عدد واحد لأنها طبعت دون علم او موافقة من السلطات، وفي سنة 1704 أسس جون كامبل صحيفة بوسطن نيوزليتر، إلا أن الثورة الحقيقية في سعر الصحيفة ثم في جماهيرها وسعة انتشارها، قد نشبت سنة 1733 عندما أصدر هوراس جريلي أول صحيفة زهيدة الثمن وهي مورنينغ بوست، ومع أن التوزيع كان ضئيلا ،فقد ظهرت صحافة البنس الواحد لأول مرة في تاريخ امريكا واصبحت الصحيفة في متناول الجميع.
والآن فلنعرج على صحافتنا ومراحل تطورها بالعالم العربي؛ فقد كان مولد الصحافة العربية وليد اتصال الغربيين ببلاد الشرق العربي ،فالفن الصحفي العربي الذي نعرفه اليوم إنما نشأ وترعرع في أحضان الحضارة الغربية، وكان الغربيون هم الذين ابتدعوه وحسنوه، وجاؤوا به الى الشرق، ولكن سرعان ما أخذ العرب يخوضون ميدان الصحافة بأنفسهم وقد طبعوها بطابعهم الخاص دون أن يقلدوا في ذلك الغربيين، وقد مرت الصحافة العربية بنفس مراحل التطور التي مرت بها الصحافة في العالم المتحضر، فقد بدأت رسمية ثم حزبية ثم مستقلة، منذ العقد الثاني من القرن التاسع عشر،حينما أصدر الوالي داوود باشا أول جريدة عربية في بغداد اسمها جورنال العراق باللغتين العربية والتركية، وذلك عام 1816، وفي عام 1828 أصدر محمد علي باشا صحيفة رسمية باللغة العربية تحت اسم جريدة الوقائع المصرية بمدينة القاهرة، وفي دمشق صدرت صحيفة سورية سنة 1865 وكانت رسمية مثل صحيفة غدير الفرات التي صدرت سنة 1867 في حلب، والرائد التونسي وكان تاريخ صدورها سنة 1860، و صحيفة المغرب التي صدرت سنة 1889، وفي الحجاز صحيفة القبيلة التي صدرت سنة 1924 كصحيفة رسيمة، وهلم جرا من الصحف العربية.
وأتمنى قبل أن أقبض العنان عن القول فيه، أن تكون هناك صحافة هادفة ذات محتوى لا تعج بالتوافه والترهات، صحافة نزيهة حرة مستنيرة تتلقى النبض العام وتعبر عنه ، تلتزم الدقة والأمانة في النشر والتحرير.
خولة الكوطبة – مدينة الدارالبيضاء
اترك تعليقا