حوار مع الروائي أحمد بطاح حول روايته “سجن بلا جدران”، التي صدرت بشهر أبريل من هذه السنة عن مؤسسة الموجة الثقافية، وهي رواية فلسفية تجسد رحلة بحث عدمية عن معنى الوجود.
كيف ولجت عالمَ الكتابة؟
كانت علاقتي بعالم الكتابة علاقة مبكرة جدا، حيث كتبت القصص وأنا في السلك الابتدائي، كما كانت لدي بعض المحاولات الشعرية كنت أشارك بها في المجلات الحائطية في المستوى الإعدادي وأيضا الثانوي. لكن علاقتي بالرواية بدأت منذ احتكاكي الأول بعوالم النقد الأدبي في السنة الأولى من المرحلة الثانوية، وعندئذ طرحت سؤال لم لا أكتب رواية؟ وفي تلك المرحلة حاولت كتابة روايتي الأولى لكني لم أتممها، لكن مشروع كتابة رواية كاملة كان يسكنني منذ ذلك الوقت، وكتب له أن يتحقق في سنتي الثالثة في الجامعة.
لماذا الكتابة؟
الكتابة بالنسبة لي تجربة وجودية عميقة يعيشها الفرد، لذلك كان هدفي دوما منها هو عيش تجارب لم يكن ليمنحها الواقع ببساطة. كما أن الكتابة في تصوري هي قضية واحتجاج، هي إسهام في خلخلة الواقع وطرح التساؤلات، ولذلك دائما ما كنت أقول إن الرواية الناجحة هي التي نخرج بها بتساؤلات لا تلك التي تقدم الأجوبة. لا أفصل ذاتي في الكتابة بين كوني كاتبا وكوني مناضلا ميدانيا في صفوف اليسار وكنقابي قضيت سنوات في الدفاع عن حقوق الأجراء. وعلى ذلك فالكتابة بالنسبة لي هي قضية.
من هذا المنطلق وحسب رأيك إلى أي مدى تستطيع الرواية خلخلة الواقع؟
أعتقد أن للرواية اليوم قدرة عجيبة على خلق تفاعل بين المتلقي والواقع، فالرواية أصبحت لها قدرة تأطيرية قادرة على خلق قضايا. كما أن الرواية لم تعد تستهلك من منطلق المتعة، بل أيضا من منطلق خلق الأفكار وتكريسها، فالأدب الماركسي كان له الدور الفعال في توسيع دائرة الماركسية، وقد فطنت الرأسمالية لذلك، فعملت على تشجيع أدب مضاد للماركسية. والمثال الأوضح أيضا هو ما تعرض له الروائي عبد الرحمان منيف من سحب للجنسية، وهذه دلالة على قوة الأدب، وعلى قدرته في خلخلة الواقع والدفع إلى التفكير فيه.
ماهي الفكرة أو الحدث الذي ألهمك لكتابة رواية سجن بلا جدران، ومن الكتاب والفلاسفة الذين ألهموك ايضا؟
بالنسبة لمصدر الإلهام الذي دفعني إلى كتابة رواية “سجن بلا جدران” فقد كان هو تجربتي في الجامعة، كنت طالب فلسفة متشبعا بالفلسفة الوجودية والعبثية، وكنت حينها أحس بالفراغ الوجودي وغياب الأفق. أثرت في حينها ثلاثة كتب هي رواية “الغريب” لألبير كامي وكتاب “اللامنتمي” لكولن ولسون وكتاب آخر تحت عنوان “كامي وسارتر” يدور حول الصداقة التي جمعت بين الفيلسوفين وتوجت بالخصام.
إذن قد كتبت الرواية وأنت طالب بشعبة الفلسفة وبالضبط بسنة 2012، فما سبب تأخر صدورها ب 11 سنة بعد كتابتها ،علما أنه قد صدرت لك قبلها روايتين وهما :الحب الآتي من الشرق، و رجل لا أثر له يسكنني؟
في الحقيقة الرواية صدرت في نسخة إلكترونية عن دار حروف منثورة للنشر الإلكتروني سنة 2016، وكان من المفترض أن تصدر في السنة نفسها في نسخة ورقية عن دار غراب للنشر والتوزيع في مصر، أمضيت العقد مع الدار، لكن لا مهنية هذه الأخيرة، والتسويف الذي قامت به، وأيضا سوء التواصل جعلني ألغي العقد معهم. وبالتالي فإن صعوبات النشر داخل المغرب هي ما جعل الرواية تتأخر كثيرا لتخرج في كتاب ورقي.
كم استغرقت منك كتابة الرواية؟
لا أذكر بالضبط كم أخذت مني كتابة رواية سجن بلا جدران، فقد كتبتها قبل أزيد من عشر سنوات، لكن بالمجمل لم تتجاوز سنة واحدة، أعتقد أنها تسعة شهور، لقد كانت مثل جنين.
روايتك كانت موسومة ب: ثلاثون عاما من الموت على رصيف الهامش، فما الدافع في تغيير العنوان؟
السبب في تغيير عنوان الرواية كان يتعلق بفوزها في إحدى المسابقات التي تقام في جمهورية مصر العربية، اقترح علي أعضاء اللجنة استبدال العنوان نظرا لطوله، وبالفعل فكرت في الأمر ووجدته كذلك، فقمت باستبدال العنوان.
قبل الشروع في كتابة الرواية هل كنت تتوقع طريقة تسلسل الاحداث ومآل الشخصيات..أم نسجت الحبكة أثناء عملية الكتابة؟
في الحقيقة أنا من الكتاب الذين لا يخططون ولا يضعون تصميما قبل بداية الرواية، ولا يحددون الخطوط الكبرى ولا الشخصيات. هذا لا يعني أنني ضد هذا الاتجاه الذي زكته ورشات الكتابة التي ترى أن الرواية يجب أن يكون مخطط لها سلفا، وأن على الكاتب أن يضع تصميما مسبقا وبطاقة تقنية لكل شخصية. أنا أرى أن هذه الأمور تقيدني ولا تدع لي مجالا للكتابة الحرة. حينما أمسك القلم تتدفق الأفكار وأنساب معها، فأجدني أخلق شخصيات جديدة وأحداثا دون أن أكون على علم بها قبل أن أبدا الكتابة. أمسك القلم هنا هو أمر مجازي، لقد تعلمت بعد كتابي الأول الرقن مباشرة على الحاسوب.
ما السبب وراء عدم تسمية بطل الرواية؟
السبب في عدم تسميتي بطل رواية سجن بلا جدران هو أني أتصور أنه سيكون أي واحد منا، لا شك أن الكثير من الناس يطرحون مثل تلك الأسئلة التي طرحها بطل الرواية، وبالتالي يمكن أن أكون أنا هو أو أنت أو أي شخص آخر. كما أن بطل الرواية يرى أن الأسماء عبثية جدا، إننا نمارس نوعا من الديكتاتورية الوجودية حينما نلخص شخصا كاملا في اسم.
إلى أي مدى تمثلك شخوص الرواية لاسيما شخصية البطل؟
عملية الكتابة عملية معقدة للغاية، حتى وإن قلت إن بطل الرواية لا يتقاطع معي في شيء، وحتى ولو كنت مؤمنا بذلك، فقد لا يكون صحيحا. نحن حينما نكتب لا نكتب، وإنما ننكتب، وبطريقة لا واعية يمكن أن تطفو ذاتنا للسطح. وعليه فإن الشخصيات هي ملامح من نفسية الكاتب أولا ومن الأشخاص الذين يعرفهم أو الذين صادفهم في حياته. لا يمكن أن يأتي بالشخصيات من فراغ.
قلت إنه بطريقة لا واعية يمكن أن تطفو ذاتنا للسطح، ربما هذا ماحدث معك في الرواية، حيث طفا أصلك الصحراوي وتعلقك بالصحراء بطريقة ضمنية خفية بلغة الرواية، من خلال توظيف عدة كلمات تدل على الصحراء من قبيل الكثبان، فدافد ،بيداء ،فَلاة.. رغم بعد الرواية موضوعاتيا ومكانيا..عن الصحراء، أ حدث هذا بطريقة لا واعية أيضا أم بطريقة واعية؟
أعتقد أن بروز معجم خاص بالصحراء، ولم لذلك من علاقة بي كإنسان صحراوي نشأ وترعرع في ذلك الفضاء، لا يعكس بالضرورة صفة القصدية في هذا الأمر. لم أكن أكتب عن الصحراء في الرواية بشكل مفكر فيه ومقصود، وما ظهر قد يكون مرتبطا باشتغال اللاوعي، خاصة أن فضاء الصحراء يسكنني كما سكنته.
تحضر الأنسنة في العديد من مواقع الرواية حيث أنسنت الطبيعة والأشياء، أ نُرجع هذا لوحدة البطل؟
ارتبطت أنسنة الطبيعة بالتيار الرومانسي، وأكيد أن هذا التيار كان له تأثير علي في كتابة الرواية. البطل كان من النوع المفرط في التفكير، وبديهي أن يخلق حوارا مع أشياء لا تتكلم، لذلك فإن عملية أنسنة الأشياء عملية لها ما يبررها داخل تخوم الرواية.
أوردت في الرواية تكرار أحداث مماثلة مثل حدث غياب سارة فجأة من حياة البطل كاختفائه فجأة من حياة نهى، وحدث تقديم البطل كتابا مجانيا لطالب بعدما أجاب على أسئلته الحدث نفسه الذي حصل للبطل سابقا، ماذا تريد أن تقول لنا عبر هذا؟
هذه الأحداث التي تكررت قد لا تكون لها رسالة واحدة محددة، إنها متروكة للمتلقي لفهمها حسب خلفياته وحسب قدراته على بناء الأفكار. لكن عموما هي مدعاة للتفكير في أن الحياة دوارة، وأن ما نفعله سيعود علينا أو لنا.
تحضر تيمات كثيرة في الرواية، الحب ،الجنس، الزواج، الصداقة، الأبوة، الاغتراب، الموت.. إلا أن تيمة العبثية و الحب والموت لعبت أهم الأدوار في تحريك الحبكة الروائية وتقدمها..فما وظيفية كل تيمة من هذه التيمات داخل الرواية، ومامدى تأثيرها علينا في حياتنا الواقعية؟
أعتقد أن هذا السؤال يمكن أن يجيب عنه المتلقي بشكل أدق مني أنا باعتباري كاتب الرواية. حينما كتبت الرواية فأنا لا أعلم ما مدى تأثيرها وتأثير تيماتها على المتلقي، خاصة وأني كتبتها منطلقا من أسئلة تسكنني أنا، ولا أعتقد أنها تسكن كل فرد منا. لذلك فإن عملية التأثير تبقى رهينة القارئ، وعليه فإن هناك من القراء من لامستهم الرواية، وجعلتهم يلتحمون بها، وفي تواصلهم معي كانوا يطرحون الكثير من الأسئلة، لكن، في الوقت نفسه، هناك من اعتبرها رواية مملة باعثة على السأم، وهذا الأمر لم يكن يقلقني، بل أحسست من خلاله أن الرواية حققت هدفها. ليس كل الناس يفهمون شخصية اللامنتمي، ويمكن أن أستلف كلام ميرسو بطل رواية الغريب حينما كان يتحدث إلى القاضي في نفسه قائلا: المسكين، إنه لا يفهم..
ذكرت أنك لم تنزعج بسبب اعتبار البعض للرواية باعثة على السأم لأن هذا جعل الرواية تحقق هدفها، أ هذا هو هدفك من الرواية؟
ليس الهدف الوحيد هو أن تكون الرواية دافعة إلى السأم، لكن، في نظري، كان هذا مقياس لنجاح الرواية، حيث إن شخصية اللامنتمي التي كتبت عنها، ليست شخصية يحس بها الجميع. سجن بلا جدران هي رواية نخبوية، لا بد من خلفية فلسفية لفهمها، شأنها شأن رواية الغريب التي وجدت أن الكثير من القراء لم تعجبهم. إن الرواية الفلسفية رواية تحتاج لقارئ متميز، قارئ له من المراكمة القرائية ما يكفي لفهمها، وليست متاحة للجميع، خاصة ممن تستهويهم الروايات التجارية.
يلاحظ القارئ في روايتك تصورات ونظريات الكثير من الفلاسفة، وقد تجلى ذلك في حوارات الشخوص، كنظرية فرويد حول الجهاز النفسي للإنسان ، وموت الإله والعود السرمدي عند نيتشه. وإلى جانب هذا يلاحظ القارئ أيضا على لسان البطل عبارة “وُجدت قبل أن أكون إنسانا”، هذا التصور نفسه الذي يدافع عنه الفيلسوف الوجودي سارتر…كل هذا يعكس الطابع الفلسفي الذي يطغى على الرواية. في نظرك ما هي وظيفية هذه التصورات الفلسفية في رواية سجن بلا جدران، وإذا شئنا أن نصنفها، هل يمكن أن تكون رواية فلسفية في المقام الأول ؟
أعتقد أن المناخ العام للرواية أصلا هو مناخ فلسفي، الرواية تعبير عن فكرة وجودية تتعلق بشخصية اللامنتمي، واللامنتمي شخصية كتب عنها كولن ولسون واصفا إياها بأنها شخصية ترى أكثر مما يجب وفهمت العالم أكثر مما ينبغي. سؤال اللاجدوى وقيمة الوجود الإنساني هو السؤال الأساسي في الرواية، وهذا السؤال كان محط اشتغال جل التيارات الفلسفية المعاصرة، خاصة التيار الوجودي والتيار العبثي والتيار العدمي. وعليه فإن طرح تصورات الفلاسفة كان يهدف إلى إثارة الأسئلة، ودفع المتلقي إلى طرح تساؤلات حول وجوده، وحول القيم التي تحكم العالم، لا يمكن أن نأتي لهذا العالم ونعيش ونلد ونموت، لا بد من إعطاء قيمة لهذا العالم الفاقد للقيمة، وإيجاد معنى لوجود لا معنى له.
وإذا لم نجد المعنى أ يكون الحل الوحيد هو الانتحار؟ أقصد قد كان مصير شخصية البطل في نهاية الرواية تراجيديا، حيث كان حل عقدة شعوره بعدمية الوجود هو الإقدام على الانتحار ؟ كيف تفسر هذه النهاية المأساوية لشخصية البطل ؟
الحلول خاض فيها الفلاسفة، منهم الاتجاه الوجودي، بتفرعاته الدينية والإلحادية، لقد مثل سورين كيرغارد الاتجاه المتدين، واعتبر أن الدين يمنح للحياة معنى، في حين اعتبرت وجودية سارتر أن الحل يكمن في العمل، وفي الاختيارات التي يسلكها الفرد بوصفه حرا ومسؤولا عن ذاته. في حين رأى العدميون أن الوجود بلا معنى، ومهما فعلنا سيبقى بدون معنى وبالتالي يجب أن لا نفعل ،لكن التصور العبثي مع ألبير كامي اعتبر أن المعنى الذي يمنحه الدين هو معنى مزيف، إنه شكل من أشكال التخدير، وطرح حل التمرد أو الانتحار، اختارت شخصية ميرسو في رواية الغريب حل التمرد، وبالتالي اخترت حل الانتحار، لأنه كان ملائما لخط الرواية.
خولة الكوطبة – مدينة مكناس
باحثة بسلك الماستر.
اترك تعليقا