تتحدد أمور كثيرة من حياتنا، وتتشكل، وتُكتَسب صِحتها وجدارتها، انطلاقا من التجارب الذاتية والغيرية أيضا، وبالتالي فقدرتنا نحن _أي الشباب_ على البقاء والاستمرار والتغير، تقف وراءها بعض الصور من الوجود، هي ضرورية جدا دون أن تذكر، لأن وجودها يتحدد انطلاقا من فعاليتها؛ أي من دورها، ووجودها أو عدم وجودها يُحدث الكثير من التقلبات، على مستوى السلوك والممارسة، أقصد هنا بالأساس البنيات الكبري، التي تؤطِر حياتنا اليومية أي العائلة والدين… “لأن الإنسان في العائلة التقليدية عضو أكثر من كونه فردا مستقلا، يعتبر كل تصرف أو قرار مستقل، خروجا عن وحدة العائلة وتنكرا لجميلها. بكلام آخر، إن كون العائلة وحدة إنتاجية اقتصادية ونواة للتنظيم الاجتماعي، يجعل القرارات الأساسية شأنا عائليا، وليس شأنا فرديا”[1]. فليست العائلة إلا فضاءً اجتماعي، يُكسِبُنا الكثير من قدراتنا في العيش، وفي التواصل أيضا، فهل كنا سنكون على ما نحن عليه بدونها؟ الاحتمال الوحيد الذي يمكن أن يذكر هنا، هو أننا نتاج للعائلة، ولمؤسسات أخرى تُشكل امتدادا لها، “ونرى أن المجتمع هو في الكثير من الأحوال صورة مكبرة للعائلة، كما أن العائلة بدورها صورة مصغرة للمجتمع… وما يحدث من تغيرات في أحدهما يؤدي بالضرورة إلى تغيرات مشابهة في الآخر”[2].
هكذا إذن، تعتبر العائلة الأصل الذي تنبع منه كل أشكال السلوك والعلاقات الاجتماعية، لأنها باختصار هي الخلية الأساسية التي يحتك بها الطفل، ويعيش بفضلها وبخيراتها أن صح التعبير حتى يعود شابا، لكن حينما نتحدث عن العائلة، فإنه غالبا ما نربطها برابطة الدم، أي القرابة الدموية، الحديث إذن عن العائلة هو حديث عن القرابة، إلا أن هذه الأخيرة، لم تعد شيئا مغريا بالنسبة للكثير من الأفراد\الشباب، فقد تغيرت الكثير من معالم وجودنا وقد شمل هذا التغيير العائلة أيضا، بيد أن هذا لا يعني أن الأفراد لا يرغبون في خلق روابط القرابة، إلا أن هذا لا يعني بدوره أنهم يعيدون الاعتبار للقرابة أي العائلة بالمعنى التقليدي، حيث أصبح الإنسان اليوم أكثر من أي وقت آخر،”يود…لو تكون القرابة بالاختيار، ولكنه يود أيضا أن تكون نتيجة الاختيار مثل القرابة تماما في صلابتها، ورسوخها، وثباتها، ودوامها، ومتانتها”[3].
كأننا أصبحنا أمام ازدواجية من نوع آخر، نرغب في الشئ ولا نرغب فيه، نود الصالح منه، دون تحمل تكلفة الباقي الغير النافع، “فما العلاقات إلا التقاء للمصالح”[4] في آخر المطاف. أو كما يقول إميل سيوران نحن ما نتفق عليه، فأصل العائلة والقرابة، هو العلاقة التي تربط بين شخصين أو أكثر التي تتأتى غالبا عن طريق الزواج\ الإتفاق، علاقة تنبثق عنها بعض أشكال من القواعد التي تسيرها، شكلية، وغير شكلية، بحيث تعتبر الهوية والانتماء والتعارف وخلق روابط اجتماعية مستحدَثة، كلها أشكال اجتماعية، لا نكتسبها فقط، وإنما تنبثق عن صيرورة من التفاعل الذي يظل مواكبا لنا، وتعد العائلة المنبع الأصل له، إلا أنه اليوم أصبح مع بعض التصورات ما بعد حداثية، نتحدث عن علاقات بلا روابط، كما هو الشأن مع زيجمونت باومان، الذي يتحدث عن “إنسان بلا روابط”[5]، إلا أنه ينبغي أن نشير إلى أن بعض من الفطرة القابعة داخل كل واحد فينا، لابد لها أن تُحركنا تجاه الآخر، “فما داموا بلا روابط، لابد أن يخلقوا بعض العلاقات”[6]. فإذا كان باومان يتحدث عن هشاشة الروابط داخل علاقات الحب والقرابة أيضا، فإنه في نفس الوقت يمكن ارجاع ذلك حسبه دوما إلى “تراجع مهارات الاجتماع الإنساني بشدة وبسرعة، بسبب النزوع نحو معاملة البشر الآخرين باعتبارهم موضوعات استهلاك والحكم عليهم مثل نموذج الموضوعات الاستهلاكية وفق حجم اللذة التي يحتمل أن يتوفرها وبلغة ‘القيمة مقابل المال’ “[7].
إنه هنا يتحدث عن التبعية لمظاهر الرأسمالية بالأساس، المتمثلة في مناخ السوق القائم على مبدأي العرض والطلب، أي على الربح\المصلحة، هذه الأخيرة قد تعتبر العامل الأساسي الذي يقف وراء التحولات التي تعرفها بنية العائلة، سواء من حيث الشكل أو حتى من حيث دورها، لذلك يمكن أن نستحضر هنا تصور هشام شرابي الذي يتحدث عن مجتمع نيوبطريركي، فرغم مظاهر الحداثة، إلا أننا نسير في علاقات يحكمها في الغالب منطق العرف، والقبيلة، والأهل، والعشيرة.. كأن يستلف أحد التجار مبلغا مهما من حيث القيمة من أحد رفاقه، ليأخذ على عاتقه مبدأ الوفاء بالعهد الغير المدون طبعا، إلا أنه ونظرا لاعتبارات ما، فإنه سيتحاشى الالتقاء بصديقه، نظرا لأنه لم يكن وفيا ولا صادقا في عهده، وصديقه هذا سيتغاضى هو الآخر عن هذا التصرف، فنفس المنطق أصبحت تسير عليه علاقاتنا الاجتماعية، كعلاقة الحب، التي يتحدث عنها باومان، باعتبارها المثال البارز لهذا النوع من المنطق العشائري إن صح القول، بحيث “اعتبر هشام شرابي أن التبعية تؤدي لا إلى الحداثة في العصر الحالي، بل إلى قيام مجتمع نيوبطريركي ملقح بالحداثة”[8]، يبدو أننا نعيش في مجتمع حديث أو لنقل معاصر من حيث الشكل والمظهر، إلا أن بعض من التأمل فيه، سيقودنا حتما، إلى التساؤل عن مدى تشبعنا بالفكر المعاصر أو حتى السابق عليه؟
يكفي أن نتساءل؛ “لماذا ينبغي أن أكون شخصا أخلاقيا؟ ما عائد الأخلاق علي؟ وماذا فعل ذلك الشخص لي حتى أبرر اهتمامي ورعايتي له؟ ولماذا ينبغي علي أن أهتم إذا كان كثير من الناس لا يبدون اهتماما؟ ألا يمكن لشخص آخر أن يفعل ذلك بدلا مني؟.. إن هذه الأسئلة هي ليست نقطة انطلاق السلوك الأخلاقي، بل علامة على انهياره”[9]. تعد هذه الأسئلة أخطر ما يمكن أن يُطرح، لاسيما عند الشباب، كما عبر عن ذلك باومان، فإن مجرد طرح هذا السؤال هو دليل على أنه ثمة وضع غير منسجم حتى لا نقول غير طبيعي.
في كثير من الأحيان يجد الشباب نفسه أمام عملية؛ الهدم والبناء، وهي عملية أضحت تجربة حتمية علينا الوقوف أمامها، لأننا نسائل أنفسنا عن عودة تأصيل وجودنا انظلاقا من حضورنا كذوات قادرة على إثبات قدراتها، وعلى خلق أساليب من العيش الخاصة بهم، مع استحضار الخصوصيات التي تفرضها العائلة طبعا، إذ يعد توحيد المجتمع وجعله أيقونة للصلاح، هو الغاية التي تجعل التنشئة العائلية، مؤطَرة به، وآخذة بعين الاعتبار الخصوصية المجتمعية، إلا أنه وفي حالات كثيرة يستطيع الشاب\ الشابة فرض أسلوب من الحياة قد يبدو للوهلة الأولى عنصرا دخيلا أو غير مرغوب فيه، إلا أنه ينبغي أن نشير إلى أن ” بناء الإنسان والمجتمع .. لا يتم من أعلى أو خلال فترة زمنية قصيرة، وإنما من خلال النضال اليومي والثابت”[10]، حيث أن الوسيلة التي أضحى الشباب يستنجد بها للهروب من أُولي التجربة أي الأهل، والذين نتحدث عنهم هنا باعتبارهم “العائلة”، هذه الوسيلة هي العلاقات الافتراضة كما يشاء باومان تسميتها، “فالعلاقات الافتراضية، على العكس من العلاقات الواقعية، يسهل الدخول فيها والخروج منها، فهي تبدو أنيقة ونظيفة، ومألوفة، وسهلة الاستخدام مقارنة بالعلاقات الواقعية الهامدة الثقيلة، الخاملة المضطربة”[11]. هذا النوع من العلاقات هو الذي قادنا حسب باومان إلى معاشرة “إنسان بلا صفات، إنه إنسان الحداثة الباكرة، الذي نضج حتى أصبح إنسانا بلا روابط. فالإنسان الاقتصادي والإنسان الاستهلاكي، يشيران إلى رجال ونساء بلا روابط اجتماعية”[12]. أضحى من المهم اليوم أن نستوعب لماذا قال إميل سيوران “سأقترف جميع الذنوب، ما عدا أن أكون أبا”، إن منطق العلاقات الصافية التي يتكلم عنها أنطوني غيدنز، أصبح هو الطاغي اليوم، لماذا؟ لأن الطفل الذي يعد الشاب امتدادا له، أضحى “في أيامنا هذه… مادة للاستهلاك العاطفي”[13]، و “..ربما يجد الشباب الذين ولدوا وتربوا وبلغوا في منعطف القرن الحادي والعشرين أن وصف أنتوني غيدنز لما يسميه “العلاقات الصافية”، إنما هو وصف مألوف وربما بديهي”[14] جدا. ليبقى المصير مجالا مفتوحا أمام إمكانيات متعددة من العلاقات التي قد تكون فاقدة لأي أصل.
خديجة بن ميك – مدينة مراكش
[1] حليم بركات، الاغتراب في الثقافة العربية؛ متاهات الإنسان بين الحلم والواقع، مركز دراسات الوحدة العربية، ص115.
[2] نفس المرجع، ص. 121.
[3] زيجمونت باومان، الحب السائل؛ عن هشاشة الروابط الإنسانية، ترجمة حجاج أبو جبر، تقديم، هبة رءوف عزت، الشبكة العربية للإبحاث والنشر، ص.64.
[4] نفس المرجع، ص.60.
[5] نفس المرجع، ص.27.
[6] نفس المرجع، ص.27.
[7] نفس المرجع، ص.115.
[8] حليم بركات، الاغتراب في الثقافة العربية؛ متاهات الإنسان بين العلم والواقع، مركز دراسات الوحدة العربية، ص.115_116.
[9] زيجمونت باومان، الحب السائل؛ عن هشاشة الروابط الإنسانية، ترجمة حجاج أبو جبر، تقديم هبة رءوف عزت، ص.133_134.
[10] عبد الرحمان منيف، الديمقراطية اولا الديمقراطية دائما، ص.104.
[11] زيجمونت باومان، الحب السائل؛ عن هشاشة الروابط الإنسانية، ترجمة حجاج أبو جبر، تقديم هبة رءوف عزت، ص.31.
[12] نفس المرجع، ص.109.
[13] نفس المرجع، ص.79.
[14] نفس المرجع، ص.130.
اترك تعليقا