حوارات مغرب الثقافة
ضيف الحوار: الشاعر والناقد الفلسطيني فراس حج محمد
حاوره : القاص أحمد العكيدي
- نستهل الحوار بالحديث عن الكتابة عموما والأدب خصوصا في حياتك؟
في الواقع عندما ينتبه الإنسان أنه أصبح كاتبا، سيغرق في الكثير من المشاريع، ويأخذ في البحث، ولا يستطيع التوقف، ليكتشف أنه قد غدا محاطا بالكتابة وأدواتها ومشاريعها من كل جانب، وتصبح هي شغله الشاغل. بالضبط تصبح “الكتابة حياته” التي يعيش من أجلها، ويخاف من نفاد العمر دون أن يحقق كل ما يصبو إليه، وما خطط له. لذلك عندما كنت أقرأ عن الكتّاب الراحلين، كان يهمني أولا ماذا بقي من إنتاجهم ومشاريعهم، ولم يتح لهم أن ينشروه. بت على قناعة تامة بعد هذه “البرمجة العصبية” لدماغي الصغير أن خيار الكتابة ليس سهلا أبدا ويلزمه الكثير من التعب ومن الأعصاب ومن القوة كذلك.
أما الأدب فقد ساهم في صناعتي الكتابية مذ كنت طفلا، إذ ليس الأدب هو فقط تلك الكتب التي نقرؤها، بل هي تلك الحياة التي عشتها وكنت ألاحظها، وتصرفات الناس في البيئة القروية التي ولدت وترعرعت وما زلت فيها. لقد وعيت أولا على أغاني أمي وتهليلاتها وتراويدها الشجية، ثم أغاني الأعراس والقصص والحكايات التي غذتني بها جدتي. ويأتي بعد ذلك الكتب، بعد أن كنت قد تشبّعت بالأدب من مصادر أخرى كان لها أكبر الأثر في شخصيتي أكثر من الكتب.
- هل ما تزال القضية الفلسطينية محورية لدى المثقف العربي أم تأثرت بالسياسة؟
يحيل هذا السؤال إلى كثير من الالتباس والجدل، فثمة ضباب كثيف يغطي مفهوم القضية الفلسطينية، وأبجدياتها، فلم يعد يشير المفهوم إلى تلك المساحة التاريخية التي حلم بالرجوع إليها المشردون من أجدادنا عام 1948، تقلّصت وتقلّصت، فبأي فلسطين يطالب المثقف العربي، وعن أي قضية فلسطينية يدافع المثقف العربي. لقد وقع المثقف العربي في الفخ كثيرا، فليس هناك اتفاق فلسطينيا أولا على تفسير وشرح مفهوم واحد كالتطبيع مثلا، فكل شيء يتعلق بالقضية الفلسطينية مُختلَف فيه مُختلَف عليه، لذلك ترى المثقف العربي ينأى جانبا، عدا أن المثقف العربي في كثير من الدول ربما التفت إلى قضايا بلده، وإن رأى أن قضايا الوطن كبيرة ومعقدة نأى بنفسه وغرق في أحلامه الخاصة. ويشهد على ذلك الكثير من الإنتاجات الإبداعية اليوم على طول البقعة العربية المشبعة بالصراعات الدموية. هذه الصراعات هي التي عقدت لسان المثقف وجعلته حيران لا يدري ماذا يقول. وربما فرّغ إحباطاته بهذيان أدبي عاكسا سوريالية الواقع المعيش.
- هناك حضور قوي للحزن في إبداعاتك، هل يعود ذلك إلى تجليات الواقع الفلسطيني أم يتجاوزه إلى صورة أوسع وأعمق للحياة؟
بعيدا عن الذات الفردية والذات الجماعية، أرى أن العالم مهدد بمصير قاتم وبشع جدا، أتخيل مثلا الأسلحة النووية والبيولوجية والذرية لو أطلقت من مخابئها مذا يحدث للعالم. هل تتخيل معي هذا المصير الأسود الذي يلف البشرية، كل البشرية؟ صحيح ربما كنت أحزن لبعض المصير الشخصي والجمعي المتعلق بالمصير الفلسطيني، ولكن ثمة ما هو أفظع في الدمار من شعب محتل ومن شخص يعاني خيبات يتعرض لها البشر جميعا. لقد انتبهت لهذه المعضلة الوجودية مبكرا منذ أيقنت أننا سنموت يوما. فسألت نفسي: إذا كنا سنموت ما فائدة كل ما نقوم به. أشعر بالعبث الذي يغلف الحياة كلها. لا معنى غير هذا، وقد طرحت هذه المعضلة في ديواني الأخير “ما يشبه الرثاء”.
- يميل الكاتب العربي عموما إلى التشاؤم. في نظرك، هل نجح هذا النوع من الكتابة في إحداث تلك الصدمة المأمولة لخلخلة ركائز العار الصامدة؟
منذ تعرفنا على الأدب العربي وإلى الآن لا أذكر أنني قرأت نصا جاداً مُفرِحا، إلا النكت والنوادر التي كانت تفسر على أنها احتجاج على الواقع. حتى القرآن الكريم تجد فيه تلك الصلابة والصرامة القوية في التعبير وفي مناقشة قضايا كبرى: الإيمان والكفر، والموت والحياة، والمصير: الجنة وجهنم، ومظاهر العذاب التي تحتل في القرآن نصيبا موفورا، ولن تصل إلى النعيم المذكور إلا بعد سلسلة من التعب والشقاء. هل هذا تشاؤم أم هذه هي طبيعة الأمور؟ ليس عندي جواب. الشعر العربي يغص بالحزن، انظر إلى المعلقات مثلا، انظر إلى قصائد الرثاء، انظر إلى قصائد الغزل، حتى الغزل لم يسلم من الحزن، فلنقرأ مثلا مدونة الغزل العذري، ثم اقفز وتعال معي إلى الأدب الحديث، كل كتابنا عالجوا مشاكل ومعضلات، ومنهم من كان متشائما، بل الأغلبية كانوا متشائمين، وصار التشاؤم لازما في أدب الحداثة وما بعد الحداثة، وخلخلة اليقينيات ومساءلة المصير كله. لذلك كان الفلاسفة متشائمين في أغلبهم. هل مهمة الأدب أن يعبر عن هذا التشاؤم؟ وهل يستطيع أن يكتب بتفاؤل؟ بل لماذا يتفاءل وهو يعرف أن مصير البشرية أسود؟ ولكن ما الهدف، إجابة لسؤالك: ربما فقط ليعبر عن حالته وعن رؤاه، ويحاول أن يجعل الناس أكثر هدوءا وبعدا عن المشاكل والصراعات. عليهم أن ينتبهوا أن الحياة لا تستحق أن يقتل أحدنا صاحبه من أجلها. هذا ليس وعظا دينيا بالمطلق، وإنما هذه هي حقيقة الحياة التي أدركها الصوفيون والزهاد، فأعرضوا عنها وهاموا في خيالاتهم لعلهم يستطيعون العيش وهم في تصالح مع هذه الحياة التي قُدّر لهم أن يعيشوها رغما عنهم، وسيرحلون عنها مجبرين أيضا.
- كناقد، كيف ترى النصوص الأدبية المعاصرة، خصوصا في الشعر والقصة القصيرة؟
بالإجمال هناك الكثير من “الإسهال” في الكتابة، شعرا وقصصا وروايات، هذا الإسهال خلف ظاهرة من الكتّاب الذين عاشوا لحظة النشوة العابرة، ولكنها المتجددة كل يوم أو مع كل نص. لم يجد أحدا لم يصبح كاتبا، بل صار عدد الكتّاب أكبر من عدد القراء. هذه ظاهرة مقلقة، لأنها أولا تنتج غزارة مع ضعف، وتؤدي إلى تغذية الذوق الأدبي بالرديء مما يساهم على المدى البعيد بصنع ذائقة أدبية متدنية، لا تتأثر ولا تنفعل إلا بالسطحي والعابر، وبذلك يموت الأدب الجيد، ولن تجد له قراء باعتباره “هو الأدب الرديء”؛ لأنه يخالف تلك الذائقة المعتلة. هناك نصوص جيدة بلا شك ولكن الإقبال عليها ضعيف، ولا تجد لها مروجين ولا تجد لها قراء إلا ما ندر، وهم متقلصون يوميا.
ما يكتب اليوم من قصة ومن شعر، أو ما يحب كتّابه أن يطلقوا عليه هذا التصنيف في أغلبه يفتقر إلى شروط الكتابة الشعرية والقصصية. ولكنهم يكتبون، وينشرون، وتقام لهم الأمسيات، وتتحدث عنهم الإذاعات، وربما يحصلون على جوائز وتكريمات.
- حسب رأيك، كيف نفهم ضعف الحركة النقدية في الوطن العربي؟
لا أظن أن الحركة النقدية في العالم العربي ضعيفة، هناك نقاد كثيرون، وهناك كتابات نقدية كثيرة وجادة وحقيقية، وهناك مؤلفات نقدية متعددة المناهج والأساليب، وهناك مجلات عريقة، شهرية وفصلية، مهمتها النقد وتأصيل النظريات النقدية، ولكن نحن لا نفتّش عنها، بل نتجنبها. فالجيل الجديد من الكتاب والكاتبات لا يقرؤون نقدا جادا، فهم لا يعرفون شيئا من المصطلحات ولا المناهج النقدية القديمة أو المعاصرة إلا ما أجبروا على قراءته في المدرسة، وتخرجوا من مدارسهم وهم يكرهون “النقد الأدبي” والنقاد، ولذلك فهم يكتبون على خير هدى وعلى غير بصيرة. النقد وجد ليتعلم الآخرون منه، وهؤلاء الآخرون هجوا النقد والنقاد، بل واتهموهم، وتطاولوا عليهم.
الحركة النقدية العربية موجودة في كل محامل النشر، الورقية والإلكترونية، في كل صحيفة ومجلة نقدية أو ثقافية، هل يعرف هؤلاء الكتاب النقاد وماذا أنجزوا؟ هل يعلمون أن هناك عشرات المؤلفات تصدر سنويا للنقاد المعتبرين؟ وهل يعلمون أن الصحف العربية في كل قطر عربي تضم بين صفحاتها صفحة أدبية يومية أو أسبوعية، أو ملحقا ثقافيا أسبوعيا أو شهريا، وتضم تلك الصفحات والملاحق بين موادها العديد من الكتابات النقدية والإعلان عن صدور الكتب النقدية؟
- هناك تمرد واضح على التجنيس الأدبي من طرف مجموعة من المبدعين، هل يقود ذلك إلى تجنيس جديد؟
لا أعتقد أنه تمرد، هو باختصار عدم معرفة وجهل بالقواعد الكتابية، عليك أولا أن تتقن تلك القواعد المرعية والمستقرة التي لم تصل إلى ما وصلت إليه إلا بعد أخذ ورد ومدارسة وتجريب طويل الأمد، اتقن أولا الموجود والمستقرّ، وبعدها فلتجرب الأشكال الجديدة، أما أن تكتب دون معرفة ودون وعي على الأجناس بحجة انهيار الجدران بين تلك الأجناس وبوهم التمرد، فليست هذه هي الكتابة المنشودة، فإن لم تستطع هدم القواعد القديمة، فكيف ستتمكن من أن تبني. من يأتي بتجنيس جديد يكون قد مر باختبار إبداعي طويل مكثف وغنيّ، وتولدت عنده حاجة ملحة ليكتب بشكل جديد، فالكتابة قادته لتولد جديدها من رحم قديمة ولود، وليست عاقرا، كأرحام الكتّاب اليوم في كثير مما يكتبون.
- حدثنا قليلا عن كتابك: “بلاغة الصنعة الشعرية”؟
هو آخر كتاب أصدرته، وصدر عن دار روافد للطباعة والنشر في القاهرة، وضعت فيه خبرة خمس وعشرين سنة من الكتابة، وأكثر من ثلاثين سنة من القراءة والاطلاع. جاء كتابا كبيرا (575) صفحة من القطع الكبير، حاولت أن أجيب عن سؤال ما زال يؤرقني: كيف يحدث الشعر؟ ولكنني بعد كل تلك الصفحات خرجت وأنا لا أملك إجابة يقينية عن حدوث هذا الكائن المسمى “الشعر”. كيف يحدث؟ أين موقع الموهبة في الصيرورة الشعرية؟ أين موقع الصنعة أيضا؟
بحثت في كثير من الموضوعات التي تشكل حالة جدل مع الشعر، الإلهام والترجمة والدين والشعر الأيروتيكي، واللغة ودورها، والجماهيرية الشعرية وصناعة النجومية الشعرية، وغير ذلك.
- كلمة أخيرة؟
لا يصلح في الأدب قول كلمة أخيرة، ولذا سأكتفي بشكري الجزيل لـ “مغرب الثقافة”، والأستاذ أحمد العكيدي على مبادرته لإجراء هذا الحوار.
اترك تعليقا