حسين الرحاوي يكتب: ألف شكر للظروف

28 يونيو 2020

كعادتها

وفي كل صباح.

 تتَّجه سناء نحو قلب المدينة النابض بعد اختراقها للكثير من الأزقة المتشابهة حد التطابق والمنتهية جميعها عند شارع رئيسي؛ بنظرة فوقية يظهر كالقلب تدلت منه شرايين متشابكة المسالك. إنه قلب المدينة النابض.

 المارة كسائر المعروضات يتشابهون تشابها خالصا، أجساد بلا أرواح، يختلفون في المظاهر فقط أما في الجوهر سيان.

محلاتٌ تفوح منها روائح البخور، أعشاب غريبة معلقة على الواجهات الخارجية للمحلات، إلى جانبها أطراف حيوانات نادرة، رؤوس، أرجل، صوف…  هذا أغلب ما يوجد هناك.

الروائحُ المنسابة تطبع على الشارع طابع الهوية، رائحةٌ ترسخت مهما غبت فإنها تبقى هي هي لا تتغير.

 تجانسُ كل تلك الأعشاب الغريبة بطريقةٍ سحرية في الهواء، يُخضِع الدماغَ قسرا للعودة إلى الأعماق.

 أتوابٌ يشعُّ منها البياضُ ساطعًا.

 وكأنَّ الاتفاقَ حصل خِلسة لتَحضير طقسٍ من طقوسِ التشييعِ القديمة، جنازةٌ جماعية نحن قُربانها…

في وسط المدينة، تتعالى أصوات منبهات السيارات، التراشق بالكلام بين السائقين، أطفال مشردين، نخاسين محتالين، سماسرة متخفين، كل هذا يجتمع هناك على طولِ الشارعِ الكبير.

من قلب كل هذا الخراب. تخترق سناء كل تلك الأفضية، مُتَّجِهةٌ إلى صخب الشارعِ مُحملة   بمناديلٍ وورودٍ، لتُؤَدي عرضها في مسرح الشارع وترحل إن غنمت ببعض الدريهمات، الشارع على نشاطهِ المسْتَمِر، زاخرٌ بالعروضِ التي لا أحدَ يأبهُ لهَا، العروض القاسية هي المهيمنة، كعرض سناء؟

سناء

 كانتْ أميرة رغم قسوة الظروف عليها، سناء بمثابة نقطة متشظية في كون بلا تخوم، ولكن بطبقات مركزة، المأساة للسفلى منها.

 بساقيها النَّحيلين، وعينيها الوجليَّتَيْنِ، تظل اليوم بأكمله تعاقر ألوان المرور، تصرخُ وهي تلتفُّ بخفَّة كورقةِ توتٍ تلاعبَ بها الهواءُ بين السياراتِ [مناديل مناديل] ورود عمِّي اشتري مني الورود، حينما تشتعل الأضواء الخضراء تنزاحُ إلى الرصيف حذِرَةً من السائقين المتهورين.

لقدْ سبقَ لها أن تعرضت لحادث كاد يودي بحياتها ذات مرة.

 وهي ترقب اشتعال الأضواء الحمراء؛ تدندن على عجَلٍ شظية صغيرة من أغنية شعبية، أغنيةٌ تروقُها كثيرًا يبدو أنها تُغَنّيها من أعماقِ أعماقِها.

 بصوتها الطفوليُّ المنهك تشدو كطَير الحسون [ألف شكر للظروف، والأيام خلتني أشوف، يوم ما حافتح الدفاتر مش هخلي لحد خاطر، وللي عندو حساب ايجيبه، وللي وقت الشدة سابني يومها ايقعد ويحاسبني وحقي هاخذه مش هاسيبو…]

أغنيةٌ تبدأها دوما ولا تنهيها أبدا. بصوتها الرهيفُ بدَتْ وكأنها سرقتها من قسوة العالم وأرعبها شيء ما.

تجري دائما كأنها سارقة.

تعيش دائما في صراع، يجب أن تسبقَ الأخرين لتعرِضَ مناديلها وورودها على السيارات الجديدة التي توقفت عند اشتعال الضوء الأحمر علَّها تبيع شيئا من بضاعتها لتعود إلى البيت، أو -لنقول-لإنهاء عرضِها، وصفٌ أكثر دقةٍ، ربَّما.

ودَدْتُ تبديد رعبها مُذ انتبهت إليها، تحدَّثت معها…

مازحًا، طلبتُ مِنْها مِنديلًا، ثمَّ تَظاهرتُ بأنّي ليسَ معي نقود…

رَسمتْ ابتسامةً ساحِرةً بشفتيْهَا المُتَشَقِّقَتيْن بكثرَة الصُّراخ والعَطَشِ وأشِعَّة الشَّمسِ اللاَّفِحَةِ، استدارت بعفوية شديدَةٍ ماسِحَة بيديها على وجْهِهَا الذي يرْتشِح بقطراتِ عِرق.

لمْ تجيبني، ولكنها أقنعتْني بصمتِهَا، صمتٌ مشحونٌ بالمَعَانِي والدِّلاَلاَتِ والخُلاَصَاتِ…   صمتٌ يلخِّصُ كلَّ شَيْءٍ.

أخبرْتها أنِّي كنتُ أمزحُ فقطْ، أعطيتها ورقة نقدية، أخذَتْ تعدُّ ما بحوزتها من دراهم لتعِيد لي البَاقي، بادَرْت فقلتُ لها بودِّية احتفظِي بالباقي، بدَت لي رشْفَةُ فرحةٍ غامرةٍ عابرةٍ رُسمت على محْياهَا. استدرْتُ وأكملتُ طريقِي وأنا أتسَاءل عن مدَى تعاسة قدرها المحتوم الذي أراد لها أن تكون بائِعَة مناديلٍ فقطْ؟ تاركة أحلام المدرسة…

منْ يُقابِلها –ولكن ألاَّ يكونَ ميتًا كالمارة-يحسُّ بمنسوب الإصرار الغير عادي الذي تطفحُ به شخصيتها، إصرارٌ جعَلها تتشبَّثُ بطُموحِها الذي لم تتخلى عنْه قطُّ.

تَيقَّنَتْ أنه سبيلها للتخلُّص من كل المشقة التي تغْتَصِب طفولتها لتسْلب منها حق اللعب كالأخرين، القدرُ أرادَ لها أن تكونَ تعيسة، علقت بذهني صورة هذا المشهد وهي تغَنِّي: وللي وقت [الشدَّة سابني يومها ايقعد ويحاسبني وحقي هاخده مش هاسيبو…]

احتجْتُ لوصفٍ دقيقٍ يعبر عن حالِها، فما خطر ببالي وقتذاك غير بيتين شعريين من ديوان نسائم الانتصار:

أنتِ الضَّعِيفةُ والمهِيضُ جَنَاحُهَا        ويذُلُّ فيكِ الماردُ الغَرُورُ

أنتِ الغَرِيبَةُ خلْفَ أسْوارِ الأسَى       ولكِ المحَاجِرُ والحَنَاجِرُ دُورُ

 قررت من يومها، الانتباه لها دومًا، أطمئِنُّ عليها بإلقاءِ التَّحيةِ عبْر التلْويحِ من بعيد حينًا وفي أحايين أخرى بأخذِ منديل على الرغم من حاجةِ إليه من عدمها، لنثرثر على عجل.

مرتْ أسابيعٌ، وخلال رحلتي الاعتيادية في ذات مساء كئيبٍ متجهمٍ، قررتُ تبدِيد ذلك الشعور الخانق بأخذ رشفة بن، وتصفح الجرائد التي لا تخلو من إشارات شبه دائمة بخطوط عريضة تكون العناوين البارزة فيها التعنيف أو الاستغلال أو الاغتصاب، انتهاكات بالجملة، على الدوام يقف التقصي عند العلة لا عن سبب العلة، إنهم كالمارة، أجساد بلا أرواح. أجساد تطرب لمشاهدة قسوة الظروف على الأخرين بساديَّة مقيتَةٍ.

جمعتُ الجريدة بعد قراءةٍ سريعةٍ تفتقِد إلى التركيزِ، ارتشَفْتُ آخر ما تبقى من قهوتي، أدَّيتُ فتورتي، بملامح متوتِّرَةٍ عدتُ أدراجي وتفكيري مشتت، قبل أن أرتِّب لاصطناع الابتسامة التي اعتدت أن أقابل بها سناء.

 سمعتُ بغثة صوت فرامل مع اصطدام مدوِ، اجتمع المارة في الحال حول الحادث، هرولت في ذهول لأجد ما لم أتوقعه يوما.

سناء تلك الفتاة البريئة التعيسة اخترقت عجلة السيارة جمجمتها.

ماتت.

تسَكَّرْتُ في مكاني، لعنتُ الظروف التي شكرتها سناء لما كانت تدندن شظايا أغاني، لا تنهيها دوما، اليوم حتى طموحها دفن معها، هكذا سيحسب الميت، والصواب طموحها بقي رمزا خالدا عائد على مرجع،

أما أنا فلم أقوى على تحمل بشاعة المشهد، لما تأكدت أنها صدقا ماتت، فأقسمت منذ ذلك الحين، أن أضع الطموح والإيثار والمحبة الصادقة مبتغاي، هكذا تعلمت أن أعيش حيا.

النهاية.

حسين الرحاوي – بني ملال

اترك تعليقا

لن يتم اظهار بريدك الالكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها *

: / :