وجوه المعز مكررة هي نفسها وجوه البارحة، لا تغيرها مع مطلع كل يوم أو شهر أو سنة، تحتفظ بها إلى ان تذبح في مجزرة عفنة تزكم الأنوف، او يخطفها ذئب جائع خفية عن أنظار الراعي المتكاسل، المنتشي بكأس شاي في هدوء تحث ظل شجرة كثيفة الورق والفروع. وحدها الوجوه المغبرة التي يتدلى منها المخاط اليابس تتغير حين تغتسل من الخطيئة. فتنزع الحقيقة، وترميها في مجرى الريح.
وتلبس وجوها مزركشة بأشكال مختلفة وبكل ألوان الطيف. فتهيم بحثا عن الإعتراف، ولو على حافة القبر.
*
فاتكِ أن تشاهد المهرج وهو ينزع عنه وجهه المجعد الثخين بجراح الماضي وندوب كل الزلات والمنغصات التي أبدع في نحتها بتجريد تشكيلي، يقص ويلصق مقولات الأخرين في سجله اللاشخصي، ليبدع في رسم مساره الملتوي كثعبان تائه يخيط الدروب بحثا عن مخبأ.
يركض، يتمرغ في خبته مبتسما، يجلس القرفصاء فوق ركاكة شخصه المثير للشفقة، الجلب للضحك الهستيري حين يبحث عن وجهه الضائع بين الحشد.
*
فاتكِ أن تستمعِ لصوت المطر وهو يرتطم برأس صلدة كالحجر فيحدث طنينا في الأذن، وتشتمي رائحة الأرض بعد مطر الخريف…خرير مياه الوادي الهادئ، الغادر، الذي لا يمكن أن يكون صادقا في هدوءه فسرعان ما ينتفض ويَلعق كما يُلعق العسل ما يجده في طريقه المعتاد.
*
فاتكِ أن تحجزي مقعدك في هذه الفكرة التي تعتريني الآن، هذه الفكرة اليتيمة المرصعة بالذهب والألماس، ولا يتدلى مخاطها، كما لا تُغير وجهها حسب الفصول والشخوص، والأمكنة. لبستني فكنت لباسها الآمن، الصادق، المانع لليأس، الجالب لكل الأحاسيس الهادئة، والراذع لكل المزايدات الشعورية، كنت لها ملجأها الوحيد وكانت شغلي الأوحد.
*
فاتكِ أن تصبحِ دعسوقة، وضعتها فوق كتاب سمين لنيتشه تناولته في هذه الليلة الشتوية الباردة، بعد أن تناولت وجبة العشاء المتأخرة.
دعسوقة شاحبة باردة أصابها شلل نصفي، وضعتها على الصفحة 63 قرب العنوان بقليل، لا تتمشى، لا تتذاكى عليّ، لا تناور، ولا تحرك ساكنا، ولا تنبس ببنت شفة.
أنظر إليها بهدوء وبحب أيضا.
أحاول رسمها، أرسم دائرة حمراء وأخرى سوداء…وكانت النتيجة شيء لا يشبه أي شيء، حينئذ ضحكت كثيرا مما صنعت، فضربت الكف بالكف وحوقلت. حينها تململت الدعسوقة وخطت بخجل ووجل ناحية العنوان …
*
فاتكِ أن تشاهدِ الضبابة السوداء الجاثمة على النفوس، وكل ما تلاها من فرح حين إبتسم الزقاق، وتزين بالعكر الخفيف، وسوّد عينيه بسهرات أحواش التي تستمر إلى الصباح. حامل البندير (يسمى أنقار anqqar بالأمازيغية) يشمر عن كتفيه ويعض لسانه ويبلع ريقه، فيجمع قواه ويصلب يده ويهوي على البندير فيصدر صوت يُسمع صداه في تخوم القرى المجاورة والبعيدة…
فيجتمع المهوسون بالموسيقى (إهواوين) فيرددون المقاطع الموسيقية التي حفظوها عن ظهر قلب، كما لم يحفظوا اسماء ابناءهم المتعددون…يتمايلون ليس حبا في الموسيقى بل طردا للبرد الذي ينهش اللحم والعظم ويخدر العقل…
*
فاتكِ أن تكون وشم على جبين فتاة قروية محافظة محتشمة، تلبس لحافا أسود داكن يستر كل جزء من تفاصيلها إلا الوشم الفاضح والخجل الظاهر، وعيناها الكبيرتان البراقتان…
بين جمع غفير من الفتيات يتراى جمالها الآسر للروح والوجدان، فيآسر العشاق إلى عالم من الترانيم الجميلة…
*
فاتكِ أن تكون زغرود قذف بها فم أنثوي مختبئ بين الجمهور في “أسايس” (تلك الساحة الشاسعة التي تتوسط القرية)، فقتحمت الأذان، فانتصب الذكور يبحثون عن مصدر الزغرودة…ترنيمة عشق تسبح في سماء داكنة يغزوها عطر أنثوي يخلد في الذاكرة والوجدان.
*
فاتكِ ان تكون صدفة تجمعني بك، فأنظر إلى عينيك الجميلتين لأول مرة
أطيل النظر فتحمرّ وجنتيك خجلا،
فتختلقين الأعذار لتنسحبي من الموقف…
*
فاتك أن تكون أول كتاب قرأته فأحببته، وحزنت كثيرا في صفحته الأخيرة وحضرت جنازة البطل الذي مات في أخر محاولة لإستعادة حبيبته التي خانته مع صديقه الوفي…
*
فاتك أن تكون أول قصة كنتٌ بطلها…
فاتك أن تكون أول نظرة إلى فتاة النبع…
فاتك ان تكون أول رعشة حياة …
فاتك أن تكون نقطة بداية و نهاية وكنت ثلاثة نقط للحذف…
.
.
حسن بوازكارن – مدينة أولوز
موفق ان شاء الله ☺️