انتظرت دوري في طابور قصير لأأخذ صورة التقطها لي المصور وطلب مني أن أنتظر إلى أن تكون الصورة الجديدة جاهزة. انتظرت لبرهة من الزمن مرت علي ثقيلة كجلمود صخر متدحرج من أعالي نفسي العليلة بداء مستمر في الزمن والمكان إسمه “التفكير المفرط”. وصل دروي، نادى علي فهرعت إليه، ومدّ لي الصورة وهي في ظرف جديد، وفي المقابل نفحته بما طلب مني من دراهم وهممت بالمغادرة.
وحين قذفني الباب خارجا، نزلت مع شارع المدينة اليتيم المتصل بأزقة ضيقة كثيرة. سحبت الصورة من الظرف، وطفقت أحملق فيها وأنا أمشي الهوينى، وتأملتها برهة من الزمن، واستغربت من الأخاديد التي حفرها إزميل الزمن في صفحة محياي وغاب الوجه الصبوح ذو الملامح الضاجة بالحبور والإقبال على الحياة وأنا في بدايات الثلاثين من العمر، الشيب والصلع زحفا وشنا غزوتهما الشرسة على رأسي بلا هوادة وبات شعري الكثيف أثر بعد عين. وغابت نظرة الشاب المليئة بالتفاؤل والبريق وحل محلها إنطفاء، شحوب، نكد، وشؤْم ظاهر منحوت على جبيني البارز الفاضح.
ألتهِمُ المسافات راجلا وأنا مغيّب تماما عن هذا العالم سابحا في عوالم من ندم وخوف ورهبة من زمن يحترف سرقة الفرح والعمر… كيف لعام واحد أن يحدِث فيّ كل هذا الدمار الظاهر والخفي؟ كيف أتكيف مع هذا الشخص الغريب عني الذي أصبحته؟
حينئذ تمنيت لو كان بإمكان الناس أن يعودوا لسابق عهدهم، لمرحلة لا يتمنون القفز عليه بتلك السرعة والسلاسة الجافة والسمجة. وأن يتوقف الزمن عند الأيام الحلوة ولا يتجاوزها إلى أيام عقيمة لا فرح فيها.
أبحرت في عوالم خفية و معتمة كخرم ظلام ليل بهيم، عالم مليء بالذكريات السوداء وانشغال بأمور تأبى أن تأتي، تذكرت مقولة لأحمد خالد توفيق حين قال ” ذلك المستقبل الذي يقلقك ربما لست فيه”. وقتئِذ رأيتني جسدا شاحبً ممدداً على بيتي الأبدي، لا حراك بي، يدان مربوطتان إلى صدري العاري والجامد، تحث الدثار الأبدي الأبيض الناصع نصاعة دماغي حينها بعد التخلص من رواسب الحياة الغادرة التي جعلتني أهيم فيها حبا وكرها أيضا، بكل تناقضاتها الصارخة، ناسيا ومتناسيا أن الحياة كالعاهرة تبدي لك ما هو مغري لتظل منبهرا بها ومتطلعا على الدوام لرفقتها، وتخفي عنك حقيقتها و خداعها و مَكرها الثعلبي الذي لا ينضب ولا يغور، وألاعيبها الخبيثة التي لن تجهر لك بها إلا حين تكون قد دلفت لخط النهاية الذي لا رجعة بعده، فتَعي أنك خُدعتَ شر خديعة فتسقط منك روحك على حين غرة فيخفت وهج الحياة فيك.
لتمتد إليك يدُ مرتعشة، تتجول في سائر جسدك البارد لتطهٍّره من نجاسة إسمها “الحياة” ولتستقبل عالمً جديدا بجسد طاهر من كل رذيلة حياتية.
تنتشلك الأيادي لترفعك فوق الأكتاف، فتخرج من بيتك الطيني الواطئ ولأول مرة بدون ملابسك البالية المعتادة، وأنت ملفوف كرضيع في ثوب أبيض لا تخشى عليه أن يتسخ في طرقات القرية المحفورة والمحفوفة ببرك ماء آسن والضفادع مضطجعة بقربها وهي حذرة من حجر طائش قد يقذف به طفل قروي يلعب في الجوار. يردد جمع ربما يكون غفيرا، لازمة حزينة بصوت شجي هدّه الوهن والحزن، فتنتحب أمك وهي تطل من فتحة الباب الموارب، ويحزن جزئيا من جعل لك في قلبه موضعً ضئيل، ويسير ورائك من تعرف أو من لا تعرف، فالموت يجمع القلوب ويؤلف بينها، بعد أن فرقتها الحياة لزمن.
فيؤلمك أنك لا تستطيع أن تضم أمك لأخر مرة، فتوارى الثرى دارك الخالدة التي لن تهجرها للأبد. والغصة تحفر الوهاد في قلبك البارد بعد أن إنطفأ الكون في عينيك الناتئتين.
درَرْت عني تلك الهواجس اللعينة وهجرتها لمرتعي، لأجدني جالسً بمقهى “شيلْ” أمام منضدة متهالكة مائلة، مترنِّحة كسكير خرج للتو من ملهى ليلي متجها لبيته الذي لم يعد يعرف موقعه. مددتُ يدي نحو كوب القهوة الموضوع أمامي، وقبل أن أرتشف منه سمعت النادل يصدح بصوت جهوري لا شك في أن الجميع سمعه : “الذباب….في قهوتك”
حسن بوازكارن – أولوز
اترك تعليقا