جيهان دانيال تكتب: مقبرة المهاجرين

8 فبراير 2020
فيما كان الكثير ينعم بدفء الأسرة وتحتضنه جدارن متينة تقيه لذعات البرد القارس وصفعاته المتجمّدة وأبواب توصد عليهم لتمنع اصوات الرياح المزمجرة المخيفة هناك وخلف ستارالليل المنسدل يوجد ثلة من الشباب تتستر بظلامه وتتحصن به تنسحب خلسة بين الازقة باتجاه الشاطىء الصخرى بين الفينة والاخرى يلفظ أحد الشوارع شابا يافعا ملثما يجول بنظراته يمنة ويسرة ثم يسرع الخطى وكأنّه على عجلة من أمره
كانت الساعة تشارف على الثالثة والنصف صباحا حين اجتمعت نخبة من الشباب بمختلف الاعمارقرب صخرة كبيرة كان أكثرهم مدثرين بأغطية من صوف بالية وما تبقي منهم فقد ارتدوا معاطف صوفية واعتمروا قبعات شتوية وفجأة سمعوا صوت رجالي خشن يردد
ــ “هل جلبتم معكم معلوم النقل واجرة الرحيل حتى تغادروننا بسلام فكل شئ على ما يرام”
ردد واصف
ـــ”كلنا جاهزون فقط دلنا متى يحين موعد الانطلاق؟”
أجابه الرجل بقهقهات ساخرة
ــ”انظرمن حولك يا هذا لقد جمعتكم الليلة لهذا الشأن.وكذلك القارب بانتظاركم خلف ذاك الجرف “
اجابه واصف بنبرة تعجب
ــ” ماذا ؟قارب؟ وهل سيكفينا ؟”
قال الرجل فيما يستمر بالسخرية
ــ” لا ستغادرون في باخرة “التيتانيك” أيها الأحمق هيّا ناولوني الاجرة ومن يتقدم اولا سيجد له مكانا”
طفق الجمع من الشباب يتدافعون أمامه ويسلمونه المال وهم على عجلة من أمرهم كأنما يتزاحمون للصعود الى الفضاء او مشاهدة عرض سيرك
ــالرجل “على مهلكم رجاء دون جلبة انى اخشي عليكم غضب السلطات “
تقدم منه شابا آخر يدعي “جاد” هكذا ناداه أحدهم فسأله
ــ” الن تأتى معنا ؟”
ــالرجل ” لا مطلقا معكم القبطان أنور سيوصلكم الى مكان محدد تستطيعون فيه اكمال رحلتكم ثم يعود بالقارب فهنالك رحلة أخرى ليلة الغد “
ــ جاد” قاتلك الله انّما انت حوت كبير ونحن مجبرون على مسايرتك بذاك القارب القديم”
لم يهتم الرجل لكلام جاد وبسرعة أخذ يرص المال في حافظة نقوده ولملم عباءته وصاح يردد للقبطان أنورعلى حد تسميته له
ــ” لا تنسي موعد الغد ادام الله لنا الشباب اترككم في امان الله “
ثم غاب في الظلام
نزل الشباب الواحد تلو الاخر الى الجرف العميق ليجدوا قاربا قديما قدّ من خشب محركه يصدر صوتا مزعجا اماكنه محدودة لا يتحمل عبء عشرة رجال فيما كان عددهم يفوق ثلاثة عشر شابا من بينهم اربعة شيوخ تراص الجمع في القارب بينما كان أنور يحمل كشافا بانارة خافتة وقبل ان يهمّ بالمغادرة طفق يعدّهم ويحاول أن يوازن بين جهتي القارب الذى كان بالكاد يحملهم اطفأ أنور الكشاف وجلس بجانب المحرك ثم بدأت رحلتهم نحو المجهول بعد ان أمرهم بالصمت وعدم الكلام
كان كل منهم غارق بتفكيره وسط اغطيته يتأمل أضواء موطنه وهي تشع من بعيد ومن حين لاخر يختفي شعاع النور حتى احس الجميع انهم داخل البحر بعمقه المخيف وسكونه الرهيب فلا شئ يحيط بهم غير الماء والظلام وحرقة في الانفس وتاسف يجاهدون خروج الدمع فيبررون رحيلهم عن موطنهم وعن عائلاتهم وابنائهم بفشلهم في ايجاد لقمة العيش وتحقيق كرامتهم وفي حفظ انسانيتهم ثم يمنون النفس بالآمال وبالمستقبل المشرق الذى ينتظرهم في الضفة المقابلة فقط هي بضعة أميال وينتهي الوجع ويبدأ الخيروالبشر كسرواصف الصمت القاتل بينهم وقال يهمس لشيخ كان يجلس بجانبه
ــ ” بالله عليك يا أبتي هلاّ أخبرتني ما الذي اتى بك معنا؟ وانت في غنى عن هذه المتاعب” أجابه
ــ “يا ولدى ادعى” زيدان” جئت من جنوب البلاد اتصارع مع لقمة العيش من اجل اولادي لاعالتهم وتعليمهم وحين علمت بأمرالهجرة وانّ بها كل الخير والثروة هناك حيث يحتاجون الى أياد عاملة في كل المجالات لم أتأخر.عندما اصل الى الضفة الاخرى سأعمل ليلا ونهارا وألملم مالا وفيرا يكفيني وعائلتي لكن لم انت تحبذ الهجرة؟ فالبلاد تحتاجكم انتم الشباب؟”
ــ” سررت بلقائك انا واصف من الساحل الشرقي للبلاد لقد ارهقتني البطالة واتعبني طول الانتظار ومللت كثرت الوظائف التى لا تناسبني عقليا وجسديا فالهجرة افضل حلا بالنسبة لي ربما اجد وظيفة في مجال تخصصي”
صمت الشيخ زيدان لبرهة ثم قال مبتسما وقد اشار الى واصف بالنظرات
ــ”أظنّ أنّ احدهم قد نام على ما يبدو هو متعب جّدا”
قال واصف
ــ” يبدو لي ما يزال صبيا صغيرا انّه ملثم خفي ّ الملامح ماعدا عينين مغمضتين تبرزان من بعيد فدفء البطانية اغراه للنوم فغلبه النعاس كيف سمح له أهله بان يهاجر؟”
ــ زيدان ” اظنه هرب خلسة وهو متخف “
ــ” لكل منّا مشكلته الخاصة “
اردف صوت جاد
ــ “حالما اصل هناك ستحل كل مشاكلى بكثرة المال”
وفجأة اهتزالقارب بقوة حتى هلع البعض منهم وكانت صيحة الصبيّ قوية اضحكت الجميع لذلك ردد شاب آخر في القارب بهزء
ــ”يا جماعة لدينا فتاة صغيرة خائفة. من سمح بصعود الفتيات معنا “
قهقه الشباب حتى خجل الصبي من موقفه امامهم فيما كان أنور يحثهم على الصمت ويدعوهم الى التاهب للنزول فالمسافة باتت قصيرة للوصول الى برالنجاة ازاح العديد عنهم الاغطية وكثرت الحركة والكلام مازال انور يردد
ــ” اصمتوا اصمتوا لا تتحركوا رجاء لا يجب ان نفقد توازن القارب يا جماعة انى اخاف عليكم الغرق ريثما نبلغ بضعة امتاراخرى “
لكن لا فائدة ترجى منهم كثرت الحركة والجلبة والحديث وبات القارب يتمايل ذات اليمين وذات الشمال وفي غمرة الضوضاء انقلب القارب ليلفظ من فيه دون سابق انذار صارت الحركة في البحر شديدة و كان اكثرهم يتخبط في الماء منهم من يجيد السباحة فامكن له مواصلة المسير باتجاه الشاطئ يكابد الامواج ويصرّعلى البقاء حياّ كالشيخ زيدان وانور وغيرهم دون ان يلتفتوا الى البقية فمنهم من طفق يتخبط في مكانه لا منقذ له يبتلع الماء غصبا كلما طلب النجدة لم يستطع واصف الابتعاد اكثر حين شاهد الصبي يمسك فى قاع القارب المنقلب تارة وينزلق منه تارةاخرى ويرتجف من البرد لشدّة تجمد المياه وهو يطلب النجدة اسرع اليه واصف يحاول ان يمسكه ثم طوقه بيده اليسرى من تحت ابطيه و اخبره بان يحافظ على هدوءه ولا يحاول مواجهة الامواج ولحينه بدأ واصف السباحة بيد واحدة يجاهد نفسه ويقوى عزيمته للوصول الى برالامان لينقذ نفسه والصغير لم يستغرق الامر باكمله دقائق معدودات حتى بدأ البحر يستعيد هدوءه وتقل فيه الحركة في ذاك المكان المشؤوم لم تكن الظلمة التى تسود المنطقة لتساعد على رؤية اذا ماكان هناك أشخاص أحياء يصارعون الموج ربما قد قدّر لكل واحد منهم ان يسلك اتجاها خاصا فشاءت المشيئة ان تسلك بهم طريقا مخالفا لما رسموه كذلك شاءت الاقدارأن تلقى بواصف ومن تبعه على شاطئ الامان حيث تحسس الرمال تحت قدميه فثبت وطفق يمشي الهوينى وهو يجرّ الصبي الذى أغمي عليه لم تك أبدا هذه ليلة حظّ واصف استلقي بدوره على الرمال يلهث جراء تعب السباحة حتى انّه لم يشعر بالبرد بقدر شعوره السعيد بالنجاة التفت يمنة ويسرة ليجد الظلام يطوق المكان والسكون يعمّ البرية استدار ثم جلس فيما كانت ثيابه مبللة تقطربالماء تكسوها الرمال انكب على الصبي الممد بجانبه يجس نبضه ويحاول سماع انفاسه وفجأة سعل الصبي وفتح عيناه فلمح وجه واصف قبالته وفوق صدره صرخ بقوة
ــ”ابتعد عني ماذا تفعل..اتركنى..”
ابتعد واصف عنه بسرعة واعتدل جالسا فوق الرمال وردد بصوت هادئ
ــ” أهذا جزائي لاني أنقذتك؟..وانّي اتحقق منك اذا ما كنت جثة هامدة بجانبي تعيق هربي”
نهض الصبي ببطء وطفق ينفض عنه الرمال ومدّ يده فوق رأسه ليجد شعره المبلل منسدلا على الاكتاف اضطرب وكثرت لمساته ونظراته في كل الاتجاهات باحثا عن عمامته ولثامه فلم يجدهما بادر بالبحث عنهما بالجوار اسرع واصف بالقول
ــ” ان كنت تبحثين عن عمامتك فقد ابتلعها البحرعوضا عنك “
أجابت بتلعثم
ــ “أنا ..أنا ..”
ــ واصف ” لديك الكثير لتوضحيه لي فيما بعد “
الصبية” ليس بمهم فالمهم أين نحن؟و هل وصلنا الى مقصدنا والى الضفة الاخرى؟
استقام واصف واقفا يتأمل البحرالواسع والغارق في الظلمة فقط صوت امواجه يجيب على كم التساؤلات العالقة في ذهنه ردد
ــ” نحن في مقبرة المهاجرين لقد نجونا باعجوبة يا فتاة “
ــ الصبية ” وأين البقية؟ وهل هذه شواطئ أرضنا أم شواطئ غريبة هكذا استقبلتنا”
رمقها واصف بنظرة الواثق المتمكن
ــ” في كلتا الحالتين انا موطنك الآن حتى يأتى ما يخالف ذلك أمّا عن البقية فلا أعلم عنهم شيئا للاسف لا يمكننى انقاذ الجميع “
وبينما هما كذلك حتى سمعا صوتا قادما من البحر قريبا منهما يردد
ــ” لم أكن أعلم اننى هرمت لدرجة ان السباحة اتعبتني أم انّ المسافة كانت بعيدة جدا”
ركض واصف قبالته وسحبه قائلا
ــ “الحمد لله على سلامتك يارجل مازلت شابا”
ــ زيدان ” تجربة حمقاء ومجازفة خطيرة اعدك بأنّي لن اغادر وطنى ثانية لو مت جوعا “
ــ كلامك يؤكد أننّا لم نصل الى الضفة الاخرى “
ــ زيدان “تماما فنحن على أرض وطننا لقد سحبنا التيار الى الضفة الغربية منه عكس ما توقعنا هياّ ساعدنى على الوقوف يجب ان نغادر الشواطئ حالا قبل انبلاج الفجرفيكشف امرنا “
ساعد واصف زيدان على الوقوف ونادى الفتاة بسخرية
ــ” يا صبي.. أقبل يجب ان نغادر”
أجابته
ــ “لست صبيا أنا فتاة وأدعي جمانة”
(واصف وهو يهمس لزيدان)
“انها ليلة المفاجآت بات كل شئ عكس التيار حتى الصبي تبين أنّه فتاة “
.
.
جيهان دانيال – تونس

اترك تعليقا

لن يتم اظهار بريدك الالكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها *

: / :