ظل يلازمني ذلك الإحساس بالعار .. ذلك الإحساس الموجع بالندم ( أكره ان أكون ضيفاً) . من ترعرع مثلي في قرية كمولاي بوعزة، و نبت هناك كسنبلة وحيدة في الخلاء سيفهم إحساسي هذا، لم يكن أمامي سوى مواجهة هذا الحرج الذي يغرزُ مديّتهُ بداخلي .. دون أدنى تفكير في العواقب .. وأنا على علم بأنني أمرغ كبريائي ! الكثير من الأسئلة المحتقنة داخلي .. الشئ الوحيد الذي انتشلني من وسط تلك الفوضى التي كانت حتما حبلى بالانفجار: صوتُ فتاةٍ تُغنّي ، مثل سمفونية كانت ، مثل صوت أم كلثوم في شرفة بعيدة .
فنانةٌ حملتني على متن باخرة فنية وسافرت بي بين ألوانٍ موسيقية طربية عربية أصيلة . كانت صوتُها الرخيمُ يجعلني أدور في فلكها الفولكلوري، ابتدأت الحكاية حين استيقظت بعد منتصف الليل، اتجهت بخطى متثاقلة صوب النافدة، سحبني صوتها وأسرني نغمها و اختطفتني كلماتها الساحرة ، كان ظاهراً أنها كانت تصغرني سناً . و كذلك واضحاً ، فتاةٌ غرّاء متعطشة للحب، كان الزقاق الذي يفصلني عنها ضيقاً يكفي أن أشرئب بعنقي من النافدة و سأرى مطربة الحي. وردةٌ نبتت بين شوك . إكليل ورد في زقاق نتن تعمره الدوكسا و أبناء الزنا! الحق أن صوتها أخذني كنت أصيخ له السمع .. غير واع فيه، لا بد من أن قلبها كابد تباريح العشق ولا ربما اغرورقت عيناها باادموع ، كان صوتها يقول الكثير .. يحكي عن ذبحة عشق ، عن انسحاق قلب، كان صوتها يفضح أوجاعها، الحياة افتعلت هذه الصدفة لتنتأ داخلي جروحاً خلفتها الذكريات.. على أرضنا السعيدة التي تعمرها كثرة المتخشبين، لا أحد يفهم وضع الفتاة وما يسكنها من حزن عميق و ما تكابده من لوعة و إحساس بالحرقة،كان لغناءها صوتٌ خاص، بالغ الشجن يتصبب حمماً غرامية ،حين انطفأ صوتها في ذلك الصمت الرهيب ابتلعني الظلام. نمت ليلتها على هلوسات طافحة بكوابيس و خيالات لم اجد لها منها مهرباً
أفقت بعد طول عناء كابدته في ليلة شبه محمومة، اعتقدت صباحها أن مطربة الحي كانت حلماً و نبرتها هاجساً، وأن الحكاية كانت ضرباً من خيال، راودني أن افصح عن الحكاية لصديقي الحسين الذي شاركني الغرفة، لكنني غضصت الطرف عن السؤال، فكتمت ما داخلي اعتقاداً مني انه حلمٌ زائف، تركته يختبئ بين ثنايا الذاكرة ظناً أنني أكثرتُ من الهلوسات في الآونة الأخيرة..
عند الظهيرة ونحن نحملقُ على مائدة الغذاء شدني الإحساس نفسه و الشعور نفسه بالحسرة و الاغتراب فالحياة تتلذذ بارتباكي وخوفي، كل ثانية كنت ألعن فيها الأقدار التي جلعتني أكابد الشعور بالخزي، أتفحص الوجوه التي سلخها حر الظهيرة و انا أضمر نزفاً من وجع،جُلت بنظري في أرجاء الغرفة فإذا بصوتها يشدو مثل كروانٍ .. هزّني بقوة .. إنها هي هي.. مطربة الحي.. حلم..؟ حقيقة..؟! اختلط الحابل بالنابل! فما عدت أقوى على الاستيعاب أهذا هاجسٌ أم حقيقة ؟!
رمقت صديقي الحسين وهو يصيخ السمع و يضحك فجلت بنظري فإذا بأحد الجالسين يقول:
– هادي خسها تمشي ل The voice كتغني غير الطرب
غالبا كتغني بجهد فاش مكتكونش الام ديلها
– عذبها الحب
– عاشقة هادي كتعاني
تعالت الضحكات و الفتاة بين الفينة و الفينة تُسمعنا لوناً موسيقياً جديداً .
طفر الدم الى ملامحي وهزتني في الأعماق تلك العبارة “غالبا كتغني بجهد فاش مكتكونش الام ديلها”. العائلة و المدرسة مقبرة الإبداع .”
عندما احتدم نقاش الابداع و العائلة في مخيلتي قاطعني صديقي الحسين :
– خاسك دير معاها شي ديو ..
ضحكنا معاً ، وكانت ضحكتي مفتعلة زائفة لكنني تظاهرت بقهقهة مجاراة للحاضرين .. استيقظت داخلي ذكريات عشتها مع فيلسوف العزف عبد الحق، إنسانٌ جيد، محب للفن والموسيقى..
صاحبة الصوت محمومة بالطرب، في نبرتها ما يشي بعمق الألم، إنها قرينة يأسي و قريبة حزني، ومؤنسة ليلي.. بصوتها العذب تتقمص ألمي ، أطرقت أفكر .. مستسلماً لصوتها الملائكي ..
أبحرت بين آلاف الأسئلة، و بعد إسهاب في إيجاد أجوبة شافية ، لاحقتني الأسئلة إلى الهضبة التعيسة و ها أنا أكتب و مازالت أسئلتي معلقة ..!
جواد الزكاة – مدينة مولاي بوعزة
اترك تعليقا