على قارعة الطريق، هنا في محطة الحافلات يتواجد معظم الأشخاص، بإختلافهم، بإختلاف تعابير وجوهم، منهم من يتذمر على تأخر الحافلة ومنهم من هو شارد في الطريق، والبعض آخر شارد في حركات وتصرفات الغير. وفي جهة أخرى نسوة تعالت أصواتهن بين الضحكات والنقاشات عن فتاة رأوها تمر رفقة شاب دون معرفة طينته بالنسبة لها. وعن جارتهن التي مرت سنوات على زواجها ولم ترزق بعد بولد يحمل اسم زوجها، وعن هذا الأخير الذي مازال حبه لم يتغير تجاهها، وحكايات الحماوات التي لا تختلف كثيرا من كنة إلى أخرى.
وأنا هنا لا أختلف كثيرا عنهن، لكن لا أنتمي لأي صنف منهن.
أضع السماعات في أذني والموسيقى بها بأعلى صوت. يعتريني جمود هائل؛ في المشاعر، في الأحاسيس، فأنا أشعر بأن أنا مات منذ الوقت الذي لم أعد أعرف فيه من أنا. وقبل أن أستكمل معرفة نفسي أتت الحافلة، ليتسابق عليها السابقون للفوز بالجلوس فوق الكراسي كأنها غنيمة لا تعد ولا تحصى.
وقفت في وجوم أتأمل السماء، فإذا بي أتطلع إلى السماء تلقائيا لأرى فقط الغيوم تهرب في أسى. أعدت نظري عليها فإذا بها تغمض عينيها صدا لأشعة الشمس المريضة. فجأة أعلن السائق عن انطلاق الحافلة صعدت وتتبعتها فاختارت المقعد الأخير ودون إدراك مني جلست بجانبها.
انطلقت الحافلة وانطلقت يديها لفتح المذكرة التي تحملها لتأخذ قلما وتبدأ في الكتابة غير مبالية بأي أحد كان.
فتاة في مقتبل العمر جميلة، متوسطة القامة، ذات بشرة بيضاء مشربة بحمرة خفيفة، عيناها واسعتين. كسر تأملي لها جملة كتبتها بخط عريض “”أنا قديمة الفكر، تقليدية الطبع””
أغلقت كتابها وأخذت آخر بدأت في قرائته، وأنا فقط تفكيري مع جملتها، كيف لواحدة مثلها أن تكون تقليدية الطبع وما العيب في ذلك ليدفعها تجهر بها في مذكرتها.
أخذت العزيمة بعدما رأيت عنوان كتابها لأباشر في الحديث عن الكتاب الذي سبق لي وأن تطلعت عليه، لكن لم أفلح فقد أجابت بجملة لخصت معنى الكتاب وبشكر أغلق باب الكلام قبل أن يفتح.
لم أطل الصمت فبعد ثواني باشرت بسؤالها:
-كيف لواحدة مثلك أن تكون تقليدية الطبع وقديمة في فكرها؟!.
لم أتلق الرد لحظتها، حتى شعرت باللوم وقبل أن أعيد كلمة ردت هي:
-وكيف لواحد مثلك أن يتربص النظر على خصوصيات الغير؟!.
لم أعد أعلم ما الرد المناسب لذلك، فقد أصابت القول أنا تجاوزت حدودي بالتطلع على خصوصياتها، لكن واحد مثلي، ما الذي تقصده بذلك؟؟!
-الحياة كتاب لا يهم ما قرأت فيه، بل ما قرأت منه والأم مهما كلفنا الأمر، يجب أن نسعى لرضاها لا غير.
أتت كلماتها علي كالصفعة كيف تعرف قصتي، دقيقة هل تعرفني مسبقا؛ وقبل أن أطرح سؤالي. أجابت هي عن تساؤلاتي.
-أحياناً لا نكن نعلم من هم الأشخاص الذين يضعهم القدر في طريقنا.
التفتت إليها لأرى هل هي طبيبة نفسية أم تقرأ الخط. لكنها التفتت لتصوب نظرها على شباك الحافلة التي لا زالت لم تصل لموقعها، لتتركني أبوح لها بما يجري وكيف المخدر أخذ حياتي وحياة أمي ومن أحب. كيف قضيت عمري في متع الدنيا، ناسيا بأن هناك دنيا أخرى بإنتظاري. كيف لم أكن أبالي بأي أحد كان، ولا أشعر بمشاعر أي كان. كيف كنت أستعد أن أخبر من أشرفت على الزواج منها أنني أتعاطى لجل أصناف المخدرات، لكنها فارقت الحياة قبل أن أخبرها بما كانت تجهله عني. وعن والدتي التي علِمت أمري وغضبت علي، غضباً أنزل من مكانة إبنها العالية لديها.
نصحتني بكلام الشباب، تحدتث معي بحكمة الشيوخ. أقنعتني بمعنى الأسرة، بمعنى الحياة، وبيقين الدنيا والآخرة. وأخيراً أردفت:
+مهما قست غرائز الحياة عليك. فالمخدر أقسى..ويجعلك دون مستوى الإنسان، ويحط من قيمتك لأبعد مكان. وبتدريج الهواء يسحبك إلى الأهوال. لماذا الفناء قبل الحال. بيد كل منا فرصة التغيير قبل فوات الآوان. لنغير من أنفسنا فغير ذلك لن يسعنا.. وإلقاء اللوم على الحال وتغير الأحوال ليس من حقنا.. فمن البداية هذه مهمتنا، أن نتعايش مع كل حال إلى أن يحين الآوان.
ومع آخر كلمة لها، وقفت الحافلة معلنة الوصول.
نزلت تاركةً شخصا آخر، عادت له مشاعره وإرادته في الحياة، وزرعت به رغبة التغيير. تتبعتها في خطى مسرعة سائلا عن إسمها لتجيب:
-“عابرة سبيل”.
-وماذا حدث لعابرة السبيل هذه يا أبي؟؟!.
وقبل أن أجيب ابنتي الذكية، بل تقليدية الطبع بتعلقها بالأشياء البسيطة وقديمة الفكر بأفكارها النبيهة التي تمتزج بين الماضي والمستقبل، بين الآن والآتي. متكاملة حبيبتي كأمها عن القصة التي أحكيها لها مع أخيها دون ملل.
جاءني صوتها يرد كالعادة بتقصير:
+تزوجت من ذاك الشاب عزيزتي.
+بعدما تغير بسبب كلامها صحيح يا أمي.
-صحيح يا بني.
جليد زينب – مدينة تارودانت
اترك تعليقا