ارتعبت “ليلة” و هي تشاهد مولودها يختنق أمام ناظريها. كان الظلام حالكا و الصمت يعم القرية النائية، حيث تعيش رفقة زوجها في بيت العائلة. سارع الجميع نحو الغرفة حيث جثت المسكينة منهارة على ركبتيها، و الدموع تنساب من المآقي، تحدق برضيعها الذي ازرق لون وجهه و تباطأت حركات تنفسه. بكت بحرقة لقلة حيلتها و لشدة حيرتها، أمام موقف جديد على شابة حديثة العهد في عالم الأمومة.
تهاطلت الاقتراحات و تباينت النصائح، ما العمل؟ انتفض الزوج “مصطفى” واقفا، ارتدى سترته و حمل الرضيع برقة، أحاطه بغطاء صوفي، ووضعه على صدره مغلقا سترته عليه. شغل محرك دراجته النارية . حاول والده و إخوته ردعه و جعله يتريث ريثما يحل الصباح، فالظلام حالك و الطريق غير المعبدة وعرة، و الكلاب الضالة و قطاع الطرق ستهدد أمنه و سلامته، لكنه جعل يديه في أذنيه و انطلق مسرعا متجها نحو الطريق الرئيسية ، حيث انتظر برهة بعد أن استأمن عمال محطة الوقود المتواجدة هناك على دراجته النارية. ضوء مصابيح حافلة تلوح من بعيد، اقتربت من موقفه، أشار لسائقها بيده…توقفت… استقلها…دفع ثمن التذكرة و أكمل سفره واقفا لعدم توفر مكان شاغر.
استغرقت الرحلة ساعة من الزمن، قضاها “مصطفى” وهو يتحسس صدره بين الفينة و الأخرى، لعله يستشعر أنفاس الرضيع ، لكن خيبة الأمل ملأت قلبه يأسا.
ما إن توقفت الحافلة بالمحطة، حتى اندفع بسرعة البرق نحو الباب، و هو يسأل كل من يعترض طريقه عن عنوان أقرب مصحة. استقل أول سيارة أجرة متجها نحو المستشفى الكبير للمدينة، سأل الحارس عن مدخل مستعجلات الأطفال، ركض مسرعا و هو يضم ذراعيه لصدره ، اقتحم المكان و صراخه يدوي كالرعد، أقبلت الممرضات في هلع، ظنه الجميع معتوها ضالا ، أمسكه الحراس…حينها استعطفهم مرددا بأعلى صوته :” ابني يحتظر..” !
رمقته نظرات دهشة و فضول، و هو يفتح سترته و يخرج فلذة كبده ليضعها بين يدي الطبيب الذي أخبره أن الرضيع يختنق بسبب نزلة برد حادة، و أن نبضه ضعيف، و ينبغي أن يمضي الليلة في غرفة الإنعاش.
جلس “مصطفى” في قاعة الانتظار، محاولا استرجاع هدوءه ، وهو يستعرض شريط الأحداث. ما مر به أطبق على جفونه، فاستسلم للنعاس …
- سيدي ! سيدي !-صوت الممرضة-
- ما الأمر! ماذا حدث؟-انتفض من غفوته مرتعبا-
- يمكنك رؤية ابنك الآن، فحالته استقرت.
لم يستوعب كلامها لفرط توثره و انطلق بخطوات سريعة متجها نحو الغرفة ، ليتأمل الرضيع و قد دبت فيه الحياة من جديد. تسارعت دموع الفرح من مقلتيه، عندها تذكر “ليلة” المسكينة , فكر كيف سيعلمها بنجاة ابنهما، فقصد موظفة الاستقبال و شرح لها وضعه فسمحت له باستعمال الهاتف.
تذكر رقم بقال القرية بصعوبة، أدخله متوجسا، وضع السماعة على أذنه ، يترقب…و أخيرا، تنفس الصعداء قائلا:
“الحمد لله، إنه يرن…. “
الحب دوما ينتصر !
لا أتحدث عن الكلمة التي ما فتئت ترددها ألسنة التفاهة و الميوعة… بل حديثي عن العاطفة “الكلية”: حب النفس وحب الآخر،
حب يتغذى على تقبل الاختلاف…تلك العاطفة النقية…التي لا يعكسها سوى نور ينبعث من داخل روح سامية، عبر عيون صادقة، لا تخشى الإعلان عن كونها شفافة… حب له غاية: ليست مادية، بقدر ما هي نفعية.
تغلغلٌ في النفس المظلمة، فرصدٌ للبقعة المشرقة، ثم إصابتها بعدوى الأمل، وتجسيد فيروس الحب بالعمل، إذ حين يغرس جذوره المقنعة، يذوب جليد الظلام و تسطع شمس النقاء ، لتضمن لهذه العاطفة البقاء.
الحب دوما ينتصر !
تواب احيدوش – مدينة مراكش
اترك تعليقا