سمع صوت صراخ بالقرية التي تسبح في هدوئها ..الساعة تجاوزت الثانية صباحا، القرية نائمة كعادتها ولا شيء يكسر هذا الهدوء سوى نباح الكلاب التائهة الباحثة عن متعة عابرة تنتهي مع انبتاق صباح جديد.
ويعاود الصراخ، تصاحبه هذه المرة همهمة مبهمة المغزى، يصل الصوت إلى غرفة بمعصرة الزيتون القديمة حيث يسهر كل ليلة شباب القرية أو من رغب منهم في تدخين عشبة الكيف أو تقطيعها ولعب الورق.
ناصر كان قرب نافدة تطل على البئر القديمة، كلما سمع الصراخ ظنه منبعث من أعماق البئر التي يشاع عنها أنها مسكونة بأرواح شريرة، ويربطون سقوط بقرة أحدهم بالبئر إلى تواجد أرواح متعطشة للدماء والقرابين مما جعلهم يتجنبون هذا المكان واتخذه المقامرين والحشاشون مكانا لهم لعلمهم المسبق أن أشجع أهل القرية لا يمكنه القدوم إليه.
وسمع الصراخ مرة أخرى فسكت الجميع وتطاولت الأعناق وتساءل الجميع عمن تراه الصارخ في هذا الوقت!
أطرق عمر قائلا:
—إلعب….إلعب قد تكون الضاوية يعنفها زوجها العياشي كالعادة، مادخلنا نحن إلعبوا !
وانهمك في تفريق الورق، فيما كان البقية مشوشون عن مصدر الصراخ الذي يمسي أقوى وأقوى !
بعد برهة أفاد ناصر أن الصوت تكرر هذه الليلة مرات عديدة حتى خاله قادما من غيابة البئر، وملأ غليونه بالكيف و مص دخانه قبل أن ينفث رماده بعيدا و ارتشف من كأس شاي قد فقد حرارته ثم عاد ليحشو غليونه بالكيف مرة ثانية.
كان إبراهيم منتشيا ولم يعقب على ما قيل منزويا بركن بالغرفة تائها بين موجات جهاز الراديو وتكلم أخيرا فقال:
—قد تكون مؤامرة صهيونية أمريكية على قريتنا لتنهب ترواثنا!
ضحك الجميع وانهمكوا في لعب ورقهم.
أطرق عمر قائلا:
—قد تكون إحدى النساء وقد جاءها المخاض فلا تكترثوا للأمر استمروا في اللعب وإلا جمعنا هذه الأوراق و ننصرف كل إلى بيته!
تضاعف الصراخ فتوقف الملأ عن لعبهم و حدق كل واحد في وجه الآخر قبل أن يقف ناصر بقلب الغرفة قائلا :
—هذا الصوت ليس بغريب علي أعرف نعم أعرف الصوت لكن من عساه يكون، فخرج إلى الباحة قرب البئر متقصيا مصدر الصوت، بينما صوت نباح الكلاب يتعالى مع كل صرخة!
همس إبراهيم :
الصوت قادم من بيت الشيخ ربما هو في عملية طرد جني من جسد إمرأة كعادته!
أجابه ناصر:
—أستبعد هذه الفرضية أعلم وقت مطاردة الجن وأعرف الوقت الذي يشتغل فيه الشيخ كما أعلم استحالة قدوم الزوار لبيت الشيخ.
قالها ناصر وعلامة الجد تبدو على سحنته، فهو يعلم خبايا الشيخ فقد كان تلميذا له ودراعه اليمنى قبل أن ينفصل عنه بعد أن ضبطه وهو يمارس الرذيلة بغرفته بزوجة أحد الجيران الذي يشتغل بالمدينة ولا يأتي إلى هذا المكان المنسي إلا بالأعياد.
تغامز الرفاق عندما تكلم ناصر عن شيخه وتاهوا في سكوتهم فيما كانت الكلاب ما تزال ممعنة في نباحها بينما الصراخ لم يعد له حسيس!
عاد إبراهيم إلى الغرفة قائلا:
—تبا لكم أحس كأني لم أدخن هذه الليلة وألقى بجسده المكتنز على بطانية فيما راح ينظف غليونه مستعدا لحشوه بالكيف، فتبعه الجميع وتحلقوا كعادتهم وانهمكوا في لعبتهم التي يقتلون بها ماتبقى من عمر هذه الليلة!
اختلط صوت راديو إبراهيم وصوت رفاقه الذين يصرخون كلما حاول أحدهم الغش في لعبتهم فما لبثوا أن سمعوا صوت قادم ينادي إبراهيم..إبراهيم…إبراهيم!
فتوقف الجميع عن اللعب وخبأ إبراهيم عدته تحت البطانية وخمد صوت الراديو فيما هب الكل واقفا يترقبون من يكون القادم !
أخد ناصر المصباح الغازي وتوجه إلى خارج الغرفة فيما كان البقية خلفه، بينما كان شخص يلوح كشبح يجري ويلهث وكأن روحا شريرة تسكنه، حاول الكل فك رموز ملامح وجهه في الظلام من بعيد فتعذر عليهم الأمر فخطوا خطوات ليقلصوا المسافة بينهم .
لم يكن القادم سوى راع يستأًجره والد إبراهيم فما إن لمحه إبراهيم حتى جثا على ركبتيه وقال له:
—وأخيرا جئتني بالخبر الذي طالما انتظرته هل مات؟
وكان يقصد والده الذي يحرمه من كل شيء بداعي أنه فتى طائش ينفق ماله على المومسات وتدخين الكيف .
حاول الراعي أن يأخذ أنفاسه وهو يحرك رأسه نافيا ما فكر به إبراهيم، فراح هذا الاخير ممسكا بكتفه قائلا:
—إن لم يكن العجوز قد مات، فما الذي جعلك تأتي لاهثا إلي في سواد هذا الليل البهيم!؟
توقف الراعي عن اللهث وفي تلعثم قال:
—وقع أمر هذه الليلة وقد يكون أهم من وفاة والدك!
أخذ إبراهيم الراعي من أذنه وأمره بالكلام فقال:
—هل تعرف البغلة البيضاء التي نستعملها في المعصرة؟
أجابه إبراهيم:
—نعم نعم أعرفها مابها؟ هل قتلت أحد ما؟
هل كسرت جمجمة أحد ما؟
تكلم بالله عليك فقد جعلتني أتيه بين الاحتمالات!
أطرق الراعي قائلا:
—الأمر أبلغ من ذلك، البغلة اليوم وضعت مولودا وهذا الامر من علامة الساعة!
عاد إبراهيم إلى الخلف فيما خر بقية أصدقائه على الارض ضحكا!
أردف إبراهيم قائلا :
هل سمعتموه ماذا قال؟
البغلة وضعت مولودا اليوم وغدا ستقوم الساعة، والتفت اليه قائلا:
— اذهب اذهب إلى بغلتك قبل أن تقوم الساعة فيما نحن سننال بعض الراحة في هذه الغرفة اللعينة في انتظار القيامة.
بزيد عبد السلام – تارودانت
اترك تعليقا