صوت اعتيادي مزعج يقرع لا وعيها دون إمهال على نحو جعلها تفتح عينيها المثقلتين بالنعاس، إنه رنين هاتفها الغبي كالعادة، مدت يدها من تحت غطائها الدافئ بطريقة أفعوانية، وضغطت أزرار هاتفها البليد بعشوائية حتى خَفَتَ رنينه، ثم أسلمت جسدها المُجهد للراحة وأغمضت عينيها مرة أخرى.
غَفَتْ لدقائق لذيذة قبل أن يكتسحها نفس الصوت المزعج بضراوة مستكرهة، ألهب دواخلها بغيظ وحنق كبيرين، كانا سببا في دفع تأثيرات النعاس وإغراءاته التي لا تنتهي، اعتدلت على حافة سريرها المُنهك بتمهّل تستدرُّ بعض معلوماتها الشخصية بعد عودتها لعالم الصحو، تتذكّر سبب استيقاظها ودواعيه؛ إنه يوم آخر جديد هي مجبرة على أن تعيشه في هذا المذبح الفاخر، الذي يتفنن في تهيء الخراف الجائعة للنحر!
تحاملت على نفسها تحت تأثير الدوار بِخطى وئيدة متجهة صوب الحمام، كانت غرفة ولدها البكر ذي السابعة والعشرين سنة موصدة، يتناهى إليها عبرها صوت شخيره المطمئن على أنغام البطالة المهيبة، تجاوزته بنفاذ صبر نحو غايتها، كان صنبور الحمام هو الشيء الوحيد في البيت الذي يعمل بإخلاص مع شركة المياه، ويؤدي واجبه معهم إلى حدٍّ بعيد في الرفع من نسبة العدّاد الآخذ في التضاعف، بسبب تسرباته الكثيرة التي أعجزت كل الحلول الترقيعية البدوية.
خرجت من الحمام تلقاء المطبخ، جهّزت فطورها المعهود القائم على أساس الشاي وركيزة زيت الزيتون، جلست إلى الطاولة وشرعت تُغمّس اللقيمات اليتيمة في الزيت وتتبعها بالشاي لتزدرد بها مرارة صباحها المتجهّم، كانت تفكّر في زوجها الكهل الذي ألزمته ضروف العمل بالانتقال إلى مدينة أخرى، هي لم تكلّمه لأزيد من أسبوعين لآخر مرة عاد فيها إلى البيت، كانت تراه يزيد سنوات أخرى في كل أسبوع يزورهم، وتبدو علامات الخيبة والقهر لائحة على وجهه بشكل يدعو للعزاء، فتُسائل نفسها عن أسباب وجودهما على هذه الرقعة المعدة للقتل بشكل بطيء، ثمّ تُمني نفسها بانتقال عاجل نحو الضفّة الأخرى فقد بلغ العسف مداه وضرب الإملاق أطنابه في عروقهما، وحتى أملهما الوحيد الذي عقداه على وحيدهما في أن يبلغ أشدّه ويعيل أسرته ويزيح عن كاهلهما أسباب الشقاء ويرقى بمستواهما الاجتماعي نحو غاية سنية قد تبخّر، فحلمه القديم في أن يتبوأ درجة الأستاذية ويصير معلما في إحدى الدواوير المقفرة قد وأده من يقف خلف وزير التعليم ويصرّف قواعد جديدة عن طريقه بشروط كثيرة، حتّمت على أبناء الوطن أن يكونوا غرباء فيه، يسيرون لغير وجهة، فيخلصون في كل مرة لطريق مسدود، ليعودوا رأسا إلى السهر وإضاعة الأوقات فيما لا طائل تحته، ثم ينتهون للرقاد الطويل هربا من مواجهة الصباح الذي يبقى مقصورا على الآباء والأمهات، ليتحمّلوا غُرمه في كل مرة، ويندبوا حظّهم العثر في كل مناسبة احتجاجا على الحالة المزرية التي ألزمتهم صروف الدهر أن يتحمّلوها بروح مثخنة بالخيبات.
أنهت المرأة فطورها، واحتفظت بكسرة خبز إلى جانب قارورة مياه في كيس بلاستيكي وأدرجتها في شبه محفظة كغداء معتاد، وانطلقت تطوي الدروب والأزقة بخطوات متعجّلة مخافة أن تفوتها الحافلة فتُعرّض للتوبيخ. كانت أولى نسائم الصباح منعشة، تحمل في طياتها بوادر مبشّرة هي بمثابة عزاء ضمني يقيمه الرب تعالى للتخفيف من غلواء الحياة، وكانت حركة المارة الذين يهبّون سِراعا نحو دوامهم اليومي تشكّل نوعا تضامنيا يرفع عن النفس ثقلها ويضع عنها إصرها الذي تنوء بحمله الجبال الرواسي، بلغت لمكان الحافلة، فوجدت كُمشة من الناس بدورهم يرتقبون وفادتها كعادة كل يوم، كانت أغلب الوجوه مألوفة، فسيرورة العمل تحتّم عليهم أن يخرجوا في نفس الساعة ويركبوا نفس المركوب البخس.
وصلت الحافلة أخيراً، وقبل أن تأخذ مكانها بدأ التسابق والتدافع على بابها كالعادة، فحتى وإن كانت كُمشة الناس تسعها الحافلة وتَفضُل مقاعد أخرى عنها فإن التدافع على بابها ركن ركين لا تقوم الحياة بدونه! أخذ الناس أماكنهم وانطلقت الحافلة تنهب الإسفلت وطفت داخلها مواضع شتى وأخبار تترى في أمور تُعجز الفحول وتترك الحليم حيرانا، بيد أن ركاب الحافلة قد تأهلوا للخوض في جل المواضيع وإبداء رأيهم السديد في كل المستجدات، بدأت الحافلة تتخفّف من بعض الركاب وتستقبل آخرين، إلى أن بلغت لمكان قريب من عمل المرأة، ترجّلت من الحافلة وانسربت بين دروب ملتوية تفضي لشارع عام، تبعته لنهايته ثم انحدرت مع شارع فرعي، كانت الشمس قد أخذت موضعها من السماء وسلّطت أشعّتها الفضيّة على الرؤوس بما لا يدع للمرأة وسيلة للتواري أو الاحتماء، فعملها يقضي بأن تذرع الكورنيش المطل على الوادي ذهابا وجيئة لتجمع القارورات الفارغة والأكياس المهملة وبقايا الأكل التي يتركها المرتادون لذلك الفضاء الرحب، كان الكورنيش في أولى بواكير الصباح قِبلة للرياضين والمشائين الذين تظهر عليهم آثار النِّعمة والبخت، ولاحظت أن النسوة اللائي يؤمون الكورنيش وجوههن لا تفتر عن الابتسام والإشراق فوقع في روعها أن كل من أمن الفاقة وضمن مستقبله هو بالضرورة مرتاح البال تفيض أسباب راحته على محياه فتجعله شابا على الدوام، وما أن انتهت إلى هذه النتيجة حتى تذكّرت زوجها التعيس الذي لا يزيده مرُّ الأيام وكرُّ الأسابيع إلا يباسا، تنهدت بحسرة وقالت بصوت وئيد: ” إن الحياة غير عادلة البتة” رفعت عينيها للسماء وبكلمات متقطّعة ممزوجة بالحسرة والضراعة توجّهت لربها أن يرفع ما ألمَّ بها وأن يغيّر من أحوالها، فأمره بين الكاف والنون وهو القادر الذي لا يعجزه شيء.
الهادي القاضي – مدينة تطوان
اترك تعليقا