ما السّبب الذي يجعلنا عاجزين عن الإدماج الحقيقي والفعّال لتراثنا الثقافي في التّنمية المستدامة بشكل ملموس؟
ثم هل نؤمن ، حقّا ، بأن التراث الثقافي يمكن أن يكون رافعة للتنمية؟
ولماذا لا نكاد ننظر لتراثنا الثقافي بغير الرّؤية الإستئصالية أو الرؤية الاحتفالية الخالصة معطّلين العين الثالثة التي يمكن أن نسّميها: عين التنمية المستدامة ؟
لنفترض أننا نؤمن بأن التراث الثقافي عنصر منتج للثّروة المادّية كما اعتدنا سماع ذلك خلال الندوات الصحفية التي تسبق انطلاق المهرجانات والتظاهرات الثقافية واعتدنا قراءته في أدبيات المنظمة العالمية للتربية والثقافة والعلوم ( اليونسكو ) ، لكن هل نستحضر ذلك في تخطيطنا لتلك التّظاهرات عبر تحليل البعد الاقتصادي استنادا إلى أرقام مضبوطة واحتمالات مبنية على واقع ملموس، ومشخّص، يستحضر أثر التظاهرات الثقافية المنصرمة ،عبر بيانات واضحة وتقريبية ، على النسيجين الاقتصادي والاجتماعي محليا، وجهويا وطنيّا، حسب حجم التظاهرة؟ . وهل نستحضر الوقع ، المستقبلي، المحتمل للتظاهرات موضوع التهييئ ، ثم هل يتمّ اشراك الفاعلين في القطاع السّياحي وقطاع الصناعات التقليدية وكل القطاعات المعنية بتكاثر الزوار ومايستدعيه ويفترضه ذلك من رواج تجاري وتوفير للاحتياط المطلوب من المواد المرتقب الاقبال عليها بكثرة على غير العادة، في التفكير الجماعي حول سبل استقبال الحدث وانجاحه أم ان كل شيئ يترك للصدفة والاشاعة والارتجال ؟
من المعروف أن منظمة اليونسكو تضع نسبة 20 % كمعدّل لنموّ المداخيل المادَية التي تدرّها السّياحة على المواقع التي تتواجد بها العناصر التّراثية التي يتم قبول تسجيلها في إحدى القوائم العالمية للتراث الإنساني : القائمة التمثيلية للتراث الإنساني ، أو قائمة الصّون العاجل للتّراث الإنساني ، أو قائمة أفضل ممارسات الصّون ، حيث يكون ذلك دافعا لاندراج البلدان التي تنتمي إليها تلك العناصر التراثية ضمن المسارات السياحية ذات الشهرة العالمية ، التي تجعل السياح يتطلعون، بشغف، لاكتشاف وزيارة المدن أو القرى أو الأماكن التي تحتضن المجموعات أو الجماعات المنتجة لذلك العنصر الثقافي التراثي الذي طفا على سطح العالمية .
ولعلّ الوعي بهذا الأمر هو الذي دفع بلدان كثيرة كانت إلى عهد قريب متواضعة اقتصاديا – ايطاليا اسبانيا ، تركيا …..- إلى سنّ سياسات تثمين تراثها الثقافي وابر ازه وصونه وتعميق البحث العلمي بشأنه وإشهاره والتحسيس بأهميته بكل الوسائل المتاحة ومنها المهرجانات والتظاهرات الثقافية الموضوعاتية و السّعي لتسجيل عناصره المتنوعة في قوائم التراث الإنساني ، مما نتج عنه ديناميّة اقتصادية كان لها انعكاس ايجابي جعل السياحة المرتبطة بالثقافة والترفيه والاستكشاف تساهم بنسب قد تصل إلى 60% في الناتج الداخلي القومي لبعض هاته البلدان .
في بلادنا يعتبر عدد المهرجانات الثقافية التراثية عددا محدودا مقارنة بشساعة إرثنا الثقافي وتعدّده وتجذّره الحضاري وتنوعه الإثني واللّغوي و التّعبيري وهو عدد يزداد تقلصا لما نستحضر شرط العالمية الذي يتحدد بالاندراج في قوائم التراث الثقافي الإنساني لليونسكو ، فإذا استثنينا موسم طانطان وموسم حب الملوك ثم مهرجان كناوة الذي يرتقب تصنيفه العالمي في دجنبر 2019 من طرف لجنة تلقي وفحص الترشيحات العالمية – بعدما تم قبول ملف ترشيحه وهي خطوة مهمة – فان المغرب يعرف تنظيم تظاهرات فنية من الحجم الكبير وذات الصيت الدولي كمهرجان الموسيقى الروحية بفاس ومهرجان الفرس بالجديدة ، ومهرجان تيميتار باكادير ومهرجان الفنون الشعبية بمراكش ، كما يعرف تنظيم مهرجانات اخرى ذات صيت وطني كمهرجان احيدوس بعين اللوح ومهرجان احواش بورزازات ومهرجان تاضا بالعرائش ومهرجان الفنون القروية بتافراوت ومهرجان عبيدات الرما بخريبكة ومهرجان العيطة بأسفي ومهرجان الة لوتار بسطات ومهرجان موسيقى الأعالي بإميلشيل ومهرجان موسيقى الرحل بمحاميد الغزلان و مهرجان تاماوايت ثم مهرجان أجدير – ايزوران بخنيفرة ومهرجانات أخرى كثيرة في كل أنحاء المغرب الثقافي ، لكن صيتها ، وخصوصا المحلّية منها ، يكاد يكون خافتا وبدون تقييم موضوعي ووعي حقيقي بأثرها الاقتصادي المحتمل على محيطها الاجتماعي ممّا يستدعي تطوير أدائها سنة عن اخرى عوض الارتكان للنمطية والتكرار مع ضرورة البحث عن افاق تتجازز المحلي الى الوطني ولم لا الى العالمي مادام شرط الاصالة الثقافية وهو اهم شرط في هذا الصدد متوفرا في مضمونها .
ان التحليل الموضوعي لسقوطنا في تكرار ظواهر ثقافية بصيغة لا تتجاوز منظور الاحتفال والترفيه ، على اهميته وضرورته ، دون ان تلامس مستويات التنمية المستدامة ، بشكل فعال، التي توجد في عمق وظيفة التراث الثقافي ناتج اساسا عن عدم قدرتنا على تجاوز صيغة رؤيتننا الاختزالية للتراث وحصره في لحظة محددة مرتبطة بزمان محدد ومناسبة محددة قد تكون عيدا وطنيا او غيره دون ان نصل لمستوى ادراجه ضمن قناعاتنا الفكرية وانتمائنا الهوياتي وتخطيطنا الاقتصادي المستدام .
لكن لماذا تنحصر رؤيتنا للتراث الثقافي ، عمليّا ، في هذا الحدّ رغم اننا نبدي احيانا ايماننا وقناعتنا المبدئية بان التراث الثقافي ينتج الثروة المادية التي تنتجها الانجازات الاخرى ذات الطبيعة المادية ؟
لماذا ترتفع اصوات الاحتجاج في بلادنا كلما كان التهييئ لعقد تظاهرة ثقافية كبرى ، مندّدة بهدر المال العامّ في مهرجانات لا طائل من ورائها حسب تفكير اصحابها في حين ان هناك مطالب اجتماعية في ميادين الصحة والتعليم والتشغيل والبنيات الطرقية …هي اولى بان ترصد لها هاته الاموال حسب نفس الاصوات دائما ؟
اراء واراء مضادة تتجاوز احيانا الدوائر المدنية لترتقي منابر السياسة في فضاءات الاحزاب والبرلمان والاعلام الحزبي جاعلة من الثقافة والفن في علاقتهما بالاخلاق وبالحكامة المالية ذريعة لتصريف موافقف ايديولوحية مرتبطة بمراحل سياسية دقيقة ذات العلاقة بالمعترك الانتخابيّ .
في هذا الصدد يمكن ان نستحضر مثال مهرجان موازين وما اثاره من نقاش في السّنوات الاخيرة حيث ان حزبا سياسيا محسوبا على التوجّه الإسلامي دأب قبل سنوات خلا ل حملته الانتخابية على استعمال ورقة التنديد بموازين في دعايته السياسية وفي حملاته الاعلامية دون ان يتبنى رسميا موقفه الرافض لتلك التظاهرة بعد تسلّم دفّة التسيير الحكومي حيث سيضطرّ من باب التذرّع بالواقعية السياسية الى التخلي عن موقفه المناهض للمهرجانات الثقافية بصفة عامة كما سيضطر للتغاضي عن تسيير وزارة الثقافة ،التي كان من الممكن ان يصّرف من خلالها سياسته الثقافية، لصالح حزب يساري اصلاحي حليف ، غير ان الراي الاستئصالي سيبقى مستمرا لدى اتباع الحزب المذكورواشياع اتباعه من المريدين الذين لا يعكسون عبر مواقفهم المناهضة للممارسات الثقافية التراثية والمهرجانات الموسيقية غير تلك الرؤية التبسيطية والاختزالية التي تعتبر الفن هدرا مجانيا وغير مبرر للمال العامّ ، وهي نفس الرؤية التبسيطية التي تاخذ شكلا اخر عندما يتعلق الامر باختزال التراث والفن في الاحتفال من اجل الاحتفال، على اهميته وضروته الوجودية ، دون امتلاك أي بوصلة ترشد لإعمال الاهداف والمرامي الاجتماعية والاقتصادية والفكرية الكامنة خلف هاته التظاهرات .
ان انتاج قناعة افقية وعمودية منتصرة للتراث الثقافي رهين بالعمل المتدرّج على دمجه ضمن معتقداتنا الرّاسخة التي تؤمن بانّ الانسان ممثلا في المجموعات والجماعات والافراد لا يمكن ان يحيا ويستمر في اطار متوازن يشعر فيه بكرامته وبهويته وانتمائه المجالي وبذكائه الترابي وهو في حالة انفصام عن تراثه الثقافي كما تعكسه وتريده الرؤية الاستئصالية ، كما لا يمكنه ان يعيش في توازن حقيقي ومستمر وهو في حالة اكتفاء بتقاطعه العابر والمناسباتي مع مظاهر التراث كما تكرسه الرؤية الاحتفالية . ان المقاربة المندمجة لتراثنا الثقافي تستدعي مراجعة استعجالية لمنظورنا له عبر ادماجه اولا في المنظومة التعليمية ،النظامية وغير النظامية، ادماجا يتجاوز الالتفات المناسباتي ، على اهميته ، الذي كان سائدا لفترة طويلة في اوساطنا التعليمية(اثناء التهييئ والاحتفال بعيد العرش في المدارس ) والذي انتج على علّاته اجيالا عاشقة للفنون والاداب ارتقت سلاليم مشرّفة في ميادين المسرح والسينما والغناء بفضل تلك الفرص النادرة التي اتاحتها لها المدرسة العمومية انذاك ، وهو ما يقوم دليلا على ان ادماج وادراج التراث الثقافي ضمن المنظومة التعليمية له اهمية استراتيجية في تصحيح منظوراتنا الاختزالية للتراث .
ثم ايضا ينبغي تشجيع ودعم التكوين والتكوين المستمر في مهن التراث الثقافي وتوسيع دائرة اهتمام المجتمع المدني بكل العناصر التراثية وخاصة المهدّدة منها بالانقراض .
ناهيك عن ضرورة دعم البحث العلمي في تخصصات التراث الثقافي التي لا زالت جد محدودة في اوساطنا الجامعية . وفي هذا الصدد ننوه بتجربة كلية الاداب، شعبة التاريخ، بجامعة السلطان المولى سليمان لخلقها منذ سنوات خلت لمساري الماستر والدكتوراه في تراث وتاريخ جهة بين ملال -خنيفرة وهي تجربة جديرة بالدعم والعناية اللازمين نظرا لخصوصيتها وفرادتها ولما يتطلبه تدبيرها من وسائل لوجيسيتية خاصة .
كما انه من الضروري اعداد مخططات صون التراث الثقافي اللامادي بما يستدعيه ذلك من تفعيل لاستراتيجيات التحسيس ، والجرد، والبحث العلمي ، وإغناء سجلات الجرد التراثي على المستويات الوطنية والجهوية والمحلية عبر الانخراط المؤسساتي لكل المعنيين بالدعم العمومي( الدولة ، الجماعات الترابية ، القطاعات الحكومية المعنية بتنمية المجال : المياه والغابات والسياحة والتنمية المستدامة والشؤون القروية وغيرها ) في توفير الموارد المالية اللازمة لانقاذ تراثنا وحفظه وابرازه وتثمينه وادماجه في سيرورة التنمية المحلية والوطنية والمساهمة في توفير وتكوين واعادة تكوين الكفاءات من الموارد البشرية والجمعيات المختصة في مجالات التراث وفي تنظيم التظاهرات الفنية الكبرى ذات الصلة .
دون ان ننس ضرورة المرافعة المستمرة في شان ادراج مزيد من عناصرنا الثقافية التراثية ضمن قوائم التمثيل العالمي لتحفيز المجتمع الدولي على منح مزيد من الاهتمام على مستوى البرامج والمسارات السياحية الجماعية والفردية المخصصة لبلادنا لما لذلك من اثار ايجابية ،كما اسلفنا القول بعلى اقتصادنا الوطني .
واخيرا فانه من شان التّدابير السّالفة الذّكر خلق ادراك مختلف يتجاوز الرؤية الاستئصالية والرؤية الاحتفالية الخالصة التي يتخبط فيها منظورنا للتراث وللمهرجانات الثقافية التراثية كما من شانه ان يعزّز ويقوي الشعور بالهوية الوطنية ويعيد الثقة للمغربي في ثقافته وماضيه كما سيساهم لا محالة وبشكل ملموس في إنعاش الاقتصادات المحلية والجهوية والوطنية جاعلا من تظاهراتنا الثقافية الكبرى منتوجا اقتصاديا وثقافيا ينعكس بالإيجاب على الوضعية الاجتماعية للممارسين وعلى محيطهم الاجتماعي والاقتصادي الذي ينشط اثناء التظاهرات ،هاته ، على مستوى الاستقبال والاطعام والايواء وترويج المنتوح الثقافي الذي يعود للصانع التقليدي المحلي الذي يستطيع عبر مهاراته وذكائه التشكيلي في صوغ إبداعاته اليدوية اختراق ذاكرة السائح وذائقته واستدراج محفظته النقدية لاقتناء التذكارات والهدايا التي سيعود بها لبلده ،اما على المستوى الرمزي فإنها تدابير ستمكننا من حفظ الذاكرة الجماعية للمغاربة وضمان تماسك هويتهم المتجذّرة في التاريخ وهي مسألة استراتيجية في غاية الأهمية .
المصطفى فروقي ، باحث في التراث الثقافي .
اترك تعليقا