لم أعد، يا صديقي، كما كنت، ذلك الرجل الرزين والهادئ والمهذب، بل صرت برما بنفسي، ناقما على العالم، صرت نزقا عنيف اللفظ، سريع الغضب قابلا للشحناء والبغضاء والذهاب إلى القتل، بداخلي سحب سوداء وكم من العزن كفيل بإغراق العالم من جديد، حزن لن يستطيع حمله الجبل. حتى جدران بيتي صارت تنوء به وتدعوني إلى الخروج وإلا تصدعت وانهارت فوق رأسي، حتى منفاي الداخلي ينبذني، ويحثني على الخروج. رأسي المثقل بكل الأفكار السوداء، قلت لأخرج بحثا عن مكان هادئ للترويح عن النفس، لأعوي فيه، لأخرج ما في النفس من حزن. ما اخترت لباسي، ارتديت ما اتفق، فالناس قد تنظر إلى لباس وجهي لتدرك مدى حزني، فليست بحاجة إلى لباسي لترى في ألوانه ما يختلج في نفسي. لن أنظر إلى الصيدلاني، أعرف أنه ينظر باتجاهي وهو يكلم صديقه كما العادة، غير عابئ بالزبائن يطلبون أدويتهم منه ويرغبون في سرية ما يحملون، هل تتصور طبيبا يفحصك وهو يكلم صديقه بحضورك البهيج ممدا على سرير الفحص؟ صديقه معلم أجده حاضرا معه في دكانه؛ أقصد صيدليته غالب الأوقات، حتى أني تساءلت مع نفسي، متى يشتغل؟ أعرف أنهما يدردشان حول سكان الحي، ويتناقلان أخبار الناس، وأخبار وشؤون المكان بكثير من جدية الكلام. يخرجان قرون اسشعارهما لالتقاط كل ما يدور.
أنظر إلى أسفل حتى لا أصاب بالتقزز مما يتركه الناس من علامات قلة النظافة، وحتى لا أصطدم بستائر المقاهي التي استحوذت على الملك العمومي ففرضت على الناس مزاحمة السيارات…سأرفع عيني إلى السماء عساها تجود علي بالطريق إلى المكان الأمثل الذي تنشده نفسي.. سحب كثيفة تراكمت فلم أر نورا..
مر قربي صاحب مركبة ثلاثية العجلا، يصيح في مكبر الصوت، يريد شراء المتلاشيات، ناديته لأبيعه بهض أعضائي الزائدة عن الحاجة، كقلبي ولساني.. لكن ابن الزا… تجاهلني، مر سريعا وغاب.
يمكنني أن اردد أغنية “مهمومة” لإيقاف البلاء..
يمكنني أن أعيد تكوير العالم بيدي الرب فيعم الصفاء!
بيد أنني فضلت أن أبدد كثافة سحب الحزن بنكتة، قد تكون غير مضحكة بتاتا، تكون على الشكل التالي:
شغلت التلفاز فلربما وجدت فسحة هروب مما أنا فيه، لأجد رجلا عابسا يتحدث بجدية، يلقي خطبه المعتادة. نظر إلي بعينين ثعلبيتين وضحك، لا، تبسم بمكر، ولما رآني أتزحزح ناهضا، أمرني بالجلوس وعدم التحرك: اثبت مكانك!
لم أمثثل، وما هي إلا لحظات حتى أرسل علي زبانيه، تقيأتهم الشاشة بسرعة، فثبتوني في مقعدي، وأكمل الجلد.
عجبا، كما لو كان راقيا شرعيا متمرسا، لم أعد أشعر بأي شيء…رباه! يا رحيما بالعباد، أشكرك على نعمك التي لا تحصى، لقد وهبتني هذا الرجل بلسما يداوي الجراح… ها أنا قد شفيت!
الآراء الواردة في هذه المشاركة تعبر عن رأي صاحبها فقط.
عبد الرحيم التدلاوي
من مواليد مكناس، درس اللغة العربية في الإعدادي والثانوي، مهتم بالسرد كتابة وقراءة، له في القصة القصيرة: أنامل الربيع، صدى السراب، قلت لي، وقريبا سيصدر له “دوائر القلق” عن منصة “ري” الثقافية، كتاب إلكتروني
في القصة القصيرة جدا، له: وجوه مشروخة، مفترق طرق، رنين الانكسار، الطيور لا تنظر خلفها حين تحلق، تداعيات الدموع والصباح، شفاه الورد، وغيرها..
اترك تعليقا