تتناول رواية “ذاكرة النرجس” لرشيد الهاشمي ( دار روافد، مصر، 2018) الزنوجة المغربية من خلال حكايتين متوازيتين تتألف كل منهما من جزأين، يردان بالتناوب تصاعديا وفق الترتيب: حI (ج1) حII (ج1) ثم حI (ج2) حII (ج2). تتجاور حكاية الحرة وحكاية العبدي وتتقابلان مرآوياً، لتقدما صورتين لمحنة الإنسان المغربي الزنجي (امرأة ورجل) من خلال سيرة ذاتية مروية بلسان أستاذة التاريخ الحرة الرزاقي بنت الگراب سوداء البشرة الفقيرة، الطالبة اليسارية، التي يتخلى عنها حبيبها نعمان الموريسكي الغني ليتزوج فتاة من لونه وطبقته البورجوازية، فتقرر البحث عن مخطوطة من القرن 14م كتبتها وخبّأتها جدتها العبدة السوداء التي كان قد اشتراها أحد كبار بني هلال بسجلماسة من تاجر يهودي، وبعد العتق من العبودية، تاهت في مدن كثيرة رفقة زوجها السوداني إلى أن استقر بهما الحال بمدينة الصويرة..”(ص،ص: 18-19). تسافر البطلة-الضحية إلى سجلماسة، تشعر بامتلاء عاطفي، لكنها تخبرنا بأن:”رحلتي الطويلة مع المخطوطة التي اضطرتني لدخول أرض سجلماسة لعلي أعثر على أثر لها لم تأت بنتيجة..” (ص.ص: 178-179).
وبموازاة الحكاية الأولى نتابع الحكاية الثانية، حكاية العبدي ابن الوزاني الكحل الطفل الذي يهرب من قريته بنفس المنطقة بسبب اضطهاد أبناء البيض له وتهميشه واحتقاره بسبب لونه “بيلّا ولد الحرطانية”. تعثر عليه سيدة فرنسية في محطة المسافرين في البيضاء فتتبناه، تسميه يوسف، يكبر، ويسافر لمتابعة دراساته العليا في الأدب الفرنسي بجامعة مارسيليا. وهناك تنشأ بينه وبين مامادو السينغالي الزنجي صداقة تفتح عينيه على الهوية الزنجية ومثقفيها في ندوة بداكار. يعود بعد عشرين عاما إلى تافيلالت للبحث عن أسرته وأصوله فلا يجد شيئا من ذلك.
هذا ملخص بروكستي لوقائع الرواية التي تتصدى لموضوعة الزنوجة من الداخل، من خلال ما تسمح به جوانية الشخصية وبرانية المجال، بجرأة حيث تجرفنا شخصيتان- من خيال وورق- إلى عوالمهما الذاتية لتصفا لنا محنتهما مع العنصرية وتحديات الاندماج ومشاعر الدونية والاستعباد عبر مراحل دارسة من التاريخ المجحف الأصم الأبكم الظالم أهله.
ليس في الرواية بطولةً ولا فخرًا بالذات الحرطانية يتجاوز الحدود، هناك فقط استرجاع لمساهمات نضالية للأجداد الخراطين في كفاحات وطنية لم يسجلها لهم التاريخ ولم يحفظها المجتمع لأحفادهم. نعم هناك ميلٌ للاحتماء بالمكان وأسطرته بما يماثل نوعا من التعويض لكن حينما يتعلق الأمر بصناعة المقدس تستشكل الأمور ويبلغ سؤال الألم والوجود مأزقه ومداه، لنقرأ الآتي ” كانت هذه الأحاديث تقودني إلى التفكير بأن السود لا يملكون القدرة على الوقوف أمام الخالق لوحدهم لأنهم لا يملكون القدر الكافي من الوجاهة والنضارة.” (ص242)
الرواية غنية بالمعطيات الأنتربولوجية والثقافية، أسماء الأشخاص والأماكن ( تافيلالت والصويرة..) وموسيقى گناوة، كما ترد أسماء كتاب ومفكرين وشعراء زنوجاً وآخرين مثل الحسن الوزان وكويلهو..
لغة الرواية لغاتٌ، سرد بالعربية المعيار مع مسحة مغربية تتخلل السرد وتتركز في الحوار، كما تتخلل جملٌ ومقاطع من الفرنسية استهلالَ الرواية ومقاطعَ حوارية وشواهد تبررها ثقافة الشخصية.
وإذا كانت حكاية الحرة محكية بصوت الشخصية- الراوية عبر زمنين مع ترتيب زمني يرجع بنا من النهاية نحو ما يشبه البداية في بنية حلزونية مع غلبة طابع الواقعية، فإن حكاية العبدي تؤطرها قواعد منزع الكتابة التجريبية، إذ تم تنويع منظورات السرد وتوزيع مقاطعه-فصوله على الشخصيات، وأسندت للكاتب والراوي سردٌ فصلين من منظوريهما في الجزأين الأول والثاني، كما تم فتح حوار مباشر بين صوتيْ الكاتب وشخصية العبدي.
وفضلا عن المسحة التجريبية في هذه الرواية التي جعلت حكايتين تشتركان القضية والمكان ولا تتضافر أحداثهما إلا من خلال تجاور وتناوب يجعلانهما لا تلتقيان إلا على مدرج الصفحات، هناك اجتهاد في تقطيع وترتيب المتن- كما وصفناه أعلاه- إلى حكايتين تتكون كلتاهما من جزأين يتلو الأولَ من الأولى الأولُ من الثانية، فالثاني من الأولى يليه الثاني من الثانية. وهذا التوزيع يتخلله تقديم أحداث وتأخير أخرى مما ينشط فعل القراءة ويجعل القارئ يراجع السابق واللاحق قصد ترتيبها منطقيا في الذاكرة.
ولعل أكبر هنة تسربت إلى هذا العمل هي اللغة، ذلك أن تدقيقاً ومراجعة لغوية كانت ستضيف قيمة وجمالاً للرواية وتبعد كثيراً مما لحق بها من شوائب جعلتني أوقف القراءة مرات عديدة لأتساءل عما إذا لم تكن قد كتبت بالفرنسية قبل نقلها إلى اللسان العربي.
أما كيف قدمت الرواية الزنوج المغاربة وهل رافعت عنهم وأي أدوات حجاجية فذاك ما ستنهض به دراسة قادمة.
اشتغل الشرقي الحمداني كأستاذ في التعليم التأهيلي، فمفتش ثم رئيس قسم البرامج بالوزارة فمستشار بسفارة بروكسيل. وهو يعد الآن أطروحته في الزنوجة العربية.
الأستاذ الباحث الشرقي الحمداني.
اترك تعليقا